الأزمات البترولية والمعلومات

TT

شهدت السوق البترولية الدولية خلال العقود الخمسة الماضية عدة ازمات كبيرة، هذه الازمات تتمثل في ارتفاع أو انخفاض كبير في الاسعار أو وجود شح أو فائض في العرض بشكل حاد وغير طبيعي، يؤثر سلبا على الصناعة البترولية، واقتصاديات الدول المستهلكة أو المصدرة للبترول.

ومن دراسة الازمات البترولية المختلفة واسبابها، يلاحظ انها تعود الى عوامل مختلفة، تشمل الاسباب السياسية والاسباب المعلوماتية.. الاول يتمثل في وجود ازمة سياسية، كالحروب، تؤدي الى انقطاع جزء من الامدادات التي بدورها تؤدي الى ارتفاع فاحش في الاسعار، وأفضل الامثلة على العامل السياسي في الازمات البترولية هو ارتفاع الاسعار في 1979 / 1980 الناتج عن الثورة الايرانية، والحرب العراقية الايرانية، وكذلك ازمة 1990 / 1991، الناتجة عن الغزو العراقي للكويت، وحرب تحرير الكويت التي تلت ذلك.

أما العامل الثاني، المعلوماتي، فيتمثل في وجود معلومات غير دقيقة تؤدي الى عدم اتخاذ أي قرار أو اتخاذ قرار خاطئ، وهذا أو ذاك يؤدي بدوره الى شح أو فائض في العرض ثم ارتفاع أو انخفاض كبير، وربما مفاجأة في الاسعار. وأفضل الامثلة على العامل المعلوماتي، هو الانخفاض الحاد في الاسعار في عام 1998، والارتفاع الحاد كذلك في عام 2000. ولا بد من الاشارة هنا الى ان ازمة الاسعار في عامي 1972 / 1974 تعود الى عدة عوامل منها، حرب رمضان وكذلك زيادة الطلب العالمي ومحدودية الطاقة الانتاجية آنذاك، أي انها تعود الى عوامل سياسية ومعلوماتية حدثت في ازمان متقاربة.

وقد حظي السبب السياسي للازمات البترولية بالكثير من التحليل والدراسات، أما العامل المعلوماتي، فقد حظي باهمال شبه تام، ما عدا مقالة هنا أو هناك وندوة نظمت على عجل في مدريد في الصيف الماضي.

وبشكل اكثر تفصيلا فإن المقصود بالعامل المعلوماتي، هو وجود معلومات يعتقد صحتها، تتعلق بالانتاج، والاستهلاك، وحركة المخزون، وكمية المخزون، والطاقة الانتاجية، والنمو الاقتصادي المتوقع. وعلى اساس هذه المعلومات تتخذ قرارات مهمة مثل زيادة أو تخفيض الانتاج، أو قرارات الشراء والبيع في السوق الآجلة، وكذلك قرارات الاستثمار واستخدام المخزون التجاري أو حتى الاستراتيجي وغيرها.. هذه القرارات التي بنيت على تلك المعلومات قد تؤدي بدورها الى ارتفاع أو انخفاض في الاسعار واحيانا بشكل حاد وغير مبرر، وفي فترة وجيزة، كما انها قد تؤدي الى وجود فائض في العرض أو نقص في الامدادات من البترول الخام أو المنتجات، كما انها تؤثر في عوائد المصافي ونسبة استخدامها. وتلك المعلومات التي كان يعتقد صحتها والتي على اساسها اتخذت القرارات يثبت خطؤها، وخلال مدة قصيرة لا تتعدى في بعض الاحيان الاسابيع.

ولا بد من الاشارة الى ان النقاش هنا هو عن المعلومات الكمية، وليس المعلومات الكيفية مثل توقعات تصرف هذه الدولة أو تلك في الانتاج، أو توقعات القرارات التي من الممكن ان تتخذ من قبل مجموعة أو واحدة من الدول المنتجة والمستهلكة. ولا بد من الملاحظة كذلك، ان عمليات اتخاذ القرار لها تأثيرات تراكمية، فعندما تتم زيادة أو تخفيض الانتاج، فإن التأثير لا يقتصر على الفترة المحددة في القرار، بل يتعداه الى فترات أخرى، وهذا ما سنوضحه في ما بعد.

فالخطأ في التقديرات في سوق واسعة ومتشعبة مثل البترول، حتى ولو كان في حدود النسبة المقبولة احصائيا وعلميا، إلا انه يعتبر كبيرا في نتائجه بالنسبة للبترول.. فنسبة الاخطاء المقبولة في الدراسات العلمية، هي %5، وهي نسبة متوقعة في غالب الاحصائيات والتقديرات المختلفة، أما بالنسبة للسوق البترولية فإن الامر يبدو مختلفا، فالخطأ قد لا يرتكب في بعد واحد، بل في حالات ثلاث وفي الوقت نفسه احيانا (العرض والطلب والمخزون).. فالخطأ المقبول %5، قد يتحول الى اكثر من %10، كما ان تأثير الخطأ يكون تراكميا من شهر الى آخر، ومن فصل الى آخر، ومن سنة الى أخرى.. وهذا يعني سوقا مشوهة، ليس بها شفافية حتى في مستواها الأدنى.

فعلى سبيل المثال وافتراضا ان تقديرات الطلب والعرض من البترول في هذه أو تلك السنة هو 75 مليون برميل يوميا، وهذا يعني ان السوق في حالة توازن، فإن خطأ في تقدير العرض بنسبة %5 مثلا يساوي 375 ألف برميل يوميا. فلو افترضنا ان هذا الخطأ في التقدير تم ارتكابه لسنتين متتاليتين، أو ان هذا الخطأ في تقدير العرض قابله خطأ مماثل في تقدير الطلب (أي في الاتجاه المعاكس، الذي يعني مضاعفة الخطأ)، وحدث في الوقت نفسه خطأ في تقديرات المخزون، فإن الصورة العامة لوضع السوق من ناحية العرض والطلب والمخزون تعتبر في حالة مشوهة وغير واقعية، ومن الصعب اتخاذ أي قرار صائب حولها. ومن هنا تتحول السوق الى أيدي المضاربين، الذين يقررون اتجاها اراديا أو غير ارادي.

ومن المهم الاشارة الى ان الاخطاء في الدراسات البترولية لا تقتصر على التوقعات المستقبلية، التي تعتبر طبيعيا عملية تخمينية حتى وان تم بناؤها على اسس منطقية وعلمية، بل انه يشمل كذلك التقديرات الخاصة بالاعوام القريبة السابقة.. ومن أجل توضيح هذا الامر، فقد تم تقييم آخر التقديرات لستة مصادر بترولية عالمية معروفة ولها اهميتها، فكان الفارق في الطلب العالمي على البترول في عام 1997، بين احداهما والأخرى اكثر من 1.2 مليون برميل يوميا (73.9 تقديرات احداهما و 72.7 تقديرات الأخرى).. ونفس الاختلافات الحادة في ما يخص العرض وحركة المخزون كذلك.. ويبدو ان هذه الاختلافات تزداد حدة مع قرب الفترة الزمنية للتقديرات. حركة المخزون لعام 1999 تتراوح ما بين 1.4 مليون برميل يوميا سلبا الى 800 الف برميل ايجابا.

وينحو البعض الى اتهام هذا الطرف أو ذاك في ضعف الشفافية في السوق البترولية، وعدم صحة المعلومات والتوقعات.. وفي الغالب فإن الاتهام ينصب على منظمة الدول المنتجة للبترول (الاوبك)، أو احدى أو بعض دولها، كما انه ينصب ايضا على وكالة الطاقة الدولية.. أي ان الاتهام سواء ادرك المتهمون ذلك أم لا (والاخير هو الغالب) ذو جانب سياسي، وليس علميا.. فخلال مؤتمر مدريد الخاص بأزمة المعلومات في السوق البترولية، اتجه البعض الى اتهام دول الاوبك ـ أو بعضها ـ بعدم صحة المعلومات عن انتاجها، إلا ان هؤلاء اغفلوا (وربما لا يدركوا) ان هناك اختلافات واضحة في تقديرات انتاج دول ذات شفافية عالية مثل كندا والولايات المتحدة والنرويج وغيرها.. فعلى سبيل المثال فإن وكالة الطاقة الدولية قدرت انتاج الولايات المتحدة لعام 1999 بمقدار 5.86 مليون برميل يوميا وانتاج كندا بمقدار 1.58 مليون برميل يوميا، بينما قدرت ادارة معلومات الطاقة التابعة لوزارة الطاقة في الولايات المتحدة، انتاج الاولى بمقدار 5.92 مليون وانتاج كندا 1.90 مليون برميل يوميا.. أي ان هناك فارقا ما بين هذين المصدرين للولايات المتحدة وكندا وبحوالي 600 الف برميل يوميا.. وتصبح الاختلافات بين مختلف المصادر اكثر حدة في حالة اضافة المكثفات والغاز المسال الى انتاج الولايات المتحدة.

ومن هنا نلاحظ الاختلافات الواضحة، واحيانا الحادة، في تقديرات الانتاج والاستهلاك وكذلك حركة المخزون وكميته، ليس فقط على المستوى العالمي، بل بالنسبة لهذه الدولة أو تلك، ولا شك ان ضعف المعلومات يضعف عملية اتخاذ القرار في الاتجاه الصحيح، الذي بدوره قد يؤدي أو يساهم في حدوث ازمة بترولية.. ومن الممكن القول ان ازمة انخفاض اسعار البترول في عام 1998 تعتبر من أفضل الامثلة على تأثير المعلومات.. فعندما قررت دول الاوبك في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) 1997، رفع الانتاج بمقدار 2.5 مليون برميل يوميا والى 27.5 برميل يوميا، كان القرار في حقيقته لا يؤثر سلبا ولا ايجابا على وضع العرض والطلب العالمي.. حيث ان المنظمة كانت تنتج اكثر مما كان، ولم يكن بالامكان زيادة الانتاج اكثر من ذلك، إلا ان السوق فسرت القرار بشكل مختلف، ففجأة بدأ الحديث عن وجود زيادة في العرض ونقص في الطلب، وفائض في المخزون.. كما تم تضخيم الازمة الاقتصادية الآسيوية وتأثيراتها على الطلب على البترول.. وعندما بدأت الدول المنتجة في تخفيض الانتاج في مارس (آذار) 1998، كان الانطباع الاول هو ان السوق سوف تعود الى التوازن وترتفع الاسعار.. إلا ان هذا لم يحدث.. واحتاجت السوق الى تخفيضات أخرى وحتى منتصف عام 1999... أي ان الدول المنتجة احتاجت على حوالي 18 شهرا الى اعادة التوازن الى الاسعار.. (وليس بالضرورة الى السوق التي لا تزال في حالة عدم توازن)، وعندما بدأت الاسعار في الارتفاع حتى وصلت الى حالة وكأنها بعيدة عن الصدارة.. ففي البداية كان السبب هو ازمة الألفية والكومبيوتر Y2K، ثم تحولت الى موجة البرد في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) وشهر فبراير (شباط)، وانخفاض المخزون من زيت الوقود.. ثم تحول التركيز الى احتمال حصول ازمة في بنزين السيارات.

وخلال عام 2000 حاولت الدول المنتجة تخفيض ازمة ارتفاع الاسعار عن طريق زيادة الانتاج، فعندما زادت الاوبك الانتاج في مارس (آذار) كان الانطباع بأن الاسعار سوف تنخفض أو قد تنهار نتيجة لوجود فائض كبير في العرض.. إلا ان هذا لم يحدث، بل حدث العكس.. ومن هنا زادت الاوبك انتاجها في يونيو (حزيران) 700 الف برميل يوميا ثم بـ 800 الف برميل يوميا في سبتمبر (ايلول)، ثم بـ 500 الف برميل يوميا في بداية نوفمبر (تشرين الثاني).. ومن هنا وصلت زيادة انتاج الاوبك خلال عام واحد الى 3.700 مليون.. فإذا اضيفت إليها زيادة الانتاج من خارج الاوبك وبحوالي مليون برميل، فإن العرض العالمي قد ارتفع خلال الربع الرابع، ومقارنة بالربع المماثل للعام الماضي بحوالي 4.7 مليون برميل يوميا.. وفي الوقت نفسه الذي زاد الانتاج بهذا المقدار فإن بعض التقديرات تدعي ان المخزون اقل من العام الماضي بحوالي 500 الف برميل.. فهل زاد الطلب العالمي بحوالي 4.7 مليون برميل يوميا في العام الماضي؟.. الجميع يشك في ذلك ويشك حتى في نصفه.. فمن الواضح إذاً اننا نحسب في الظلام.

ان الموضوع المهم حاليا ومستقبلا للصناعة البترولية وللدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء هو الحصول على افضل المعلومات التي تقرب من الواقع وتقلل احتمال الخطأ في اتخاذ القرار، والذي بدوره يؤدي الى اضعاف فرص حدوث ازمات بترولية نتيجة لنقص في المعلومات، ولا شك اننا نحتاج الى تعاون جيد في بناء قاعدة للمعلومات قريبة للحقيقة.. كما اننا في حاجة الى بناء جسور من الثقة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة، وداخل كل مجموعة على حدة، وجسور الثقة هذه يجب ان تشمل الشفافية في تقديم المعلومات وعدم اللجوء الى اتهام هذا الطرف أو ذاك.. وكما تعاونت الدول المستهلكة والدول المنتجة على تقليل المخاطر السياسية على سوق البترول، فإنه بالامكان التعاون لخلق معلومات أفضل تساهم في اتخاذ القرار المناسب وتقلل من فرص حدوث الازمات البترولية.