الأردن المتضرر الأكبر والأسباب كثيرة!

TT

قضية اللاجئين ستبقى لغما جاهزا للانفجار والصيغ المطروحة ليست كافية وغير مقبولة احتدم الجدل مرة أخرى حول موقع قضية اللاجئين الفلسطينيين في عملية التسوية في ضوء التصريحات والتسريبات، التي سبقت ورافقت وأعقبت اجتماعات قاعدة «بولينغ» الجوية الأميركية، وتناولت جهات عدة هذه القضية بتركيز أكثر وطُرحت تصورات كثيرة لحل مسألة تعتبر عقدة العقد بالنسبة للصراع في الشرق الأوسط.

وفي خضم هذا الجدل الذي لا يزال محتدماً فقد طرحت اسئلة كثيرة حول ما الأكثر أهمية، بالنسبة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، هل هي قضية القدس أم قضية اللاجئين..؟

وبالطبع فإن الأجوبة على هذا السؤال تعددت ايضاً، فهناك من قال ولا يزال يقول ان القدس هي جوهر الصراع وانه اذا كان بالامكان القبول بمساومة تاريخية على قضية اللاجئين فإنه لا يجوز التفكير حتى مجرد التفكير بمثل هذه المساومة بالنسبة الى مسألة تهم العرب والمسلمين كلهم، هي مسألة المسجد الأقصى والمدينة المقدسة.

والحقيقة ان وضع قضية القدس وقضية اللاجئين على جدول أعمال المتفاوضين الذين ذهبوا الى قاعدة «بولينغ» بالقرب من واشنطن، قد اثار جدلاً في صفوف الاسرائيليين وبين احزابهم وتياراتهم السياسية المتعددة المختلفة أكثر وأشد حدة من الجدل الذي اثارته بين الفلسطينيين بكل منظماتهم وتنظيماتهم وكل العرب في كل أقطارهم ودولهم.

وينقسم الاسرائيليون حيال هذا الاشكال العويص الى قسمين، قسم ينظر الى المسألة من الناحية الدينية التوراتية، وهؤلاء كما افتى حاخاماتهم، فور عودة المتفاوضين من الولايات المتحدة وسط كثافة هائلة من المعلومات المتضاربة حول حل تجري بلورته ووضع اللمسات الأخيرة عليه، بأنه لا يجوز التخلي عن «جبل الهيكل» وعلى الاطلاق، وقسم ينظر اليها من الناحية السياسية ـ الاستراتيجية وهؤلاء يقولون، كما سمعنا من شمعون بيريز وشلومو بن عامي ويوسي بيلين ومن ايهود باراك ايضاً، إن المقتل هو قضية اللاجئين الفلسطينيين، إذ أن عودتهم على النحو الذي يطالب به العرب والفلسطينيون تعني النهاية الحتمية لدولة اسرائيل.

والمعروف ان مسألة مصير أهل فلسطين بعد قيام الدولة الاسرائيلية كان الشغل الشاغل لفلاسفة الحركة الصهيونية قبل وبعد قيام دولة اسرائيل، ولذلك فإنهم رفعوا ذلك الشعار المبكر القائل: «ارض بلا شعب لشعب بلا أرض»، كما طرحوا وفي وقت مبكر ايضاً معادلة التبادل السكاني وعلى اساس ان الحل بالنسبة لهذه القضية هو أن يكون يهود الدول العربية الذين غادروا اوطانهم في بدايات عقد الخمسينات من القرن الماضي مقابل الفلسطينيين الذين اضطروا لمغادرة مدنهم وقراهم تحت الضغط والبطش والحملات الاعلامية والنفسية المركزة.

لقد كان هدف بناة الدولة الاسرائيلية الأوائل يتركز على ضرورة اخلاء كل فلسطين من كل سكانها، ولهذا فإن عصابات الهاغاناة وشتيرن بادرت قبل وبعد قيام دولة اسرائيل الى تنفيذ سلسلة من المجازر، من بينها مجزرة كفر قاسم الشهيرة لدفع الفلسطينيين، تحت سطوة الإرهاب، لمغادرة مدنهم وقراهم في منطقة النقب والجليل والساحل كله والانتقال للعيش في مخيمات في الدول المجاورة، الأردن وسوريا ولبنان.

ولعل وزير الدفاع الاسرائيلي الاسبق موشيه ديان كان الأكثر وضوحاً من بين كل بناة الدولة الاسرائيلية الأوائل، فلقد كان أدلى بتصريح في نحو منتصف عام 1950، بعد سلسلة من عمليات الطرد والإبعاد للفلسطينيين التي تركزت على سكان النقب بصورة خاصة، قال فيه: «آمل ان تكون هناك فرصة اخرى في المستقبل لترحيل هؤلاء العرب من أرض اسرائيل.. وطالما وجدت هذه الإمكانية فيجب أن لا نقوم بشطب هذا الخيار».

وهنا وكما جاء في دراسة توثيقية اصدرتها دائرة شؤون المفاوضات التي يرأسها أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) فقد كان احد الشعارات الرئيسية التي ابتكرها كبار مسؤولي وزارة الخارجية الاسرائيلية في عقد الخمسينات من القرن الماضي هو: «اذا كان من المتعذر حل قضية اللاجئين فيجب ان يتم تذويبها».

ومعنى هذا، حسب وجهة نظر مسؤولي وزارة الخارجية الاسرائيلية، انه اذا كان حل قضية اللاجئين الفلسطينيين كمشكلة سياسية متعذراً وغير ممكن، فإنه بالامكان تذويب هذه المشكلة من خلال دمج هؤلاء اللاجئين في اقتصاديات ومجتمعات الدول التي يقيمون فيها. ويبدو هنا ان الأردن كان المقصود بالدرجة الأولى كما ثبت من خلال التطورات والوقائع اللاحقة.

واستعداداً لما سيثار في المستقبل فإن اسرائيل، التي اتبعت سياسة الأرض المحروقة تجسيداً للشعار الخادع: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، دأبت وفي وقت مبكر على الادعاء بأنها غير مسؤولة عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين. وحاولت اقناع الرأي العام العالمي بأن هجرة هؤلاء اللاجئين ومغادرتهم لقراهم ومدنهم كانت مجرد «تكتيك» حربي عربي وأنهم لم يجبروا على الهجرة تحت وطأة الارهاب والسلاح والحملات الاعلامية والنفسية، وهذا ما كرره المفاوضون الاسرائيليون في مفاوضات قاعدة «بولينغ» الأخيرة وفي كل جولات المفاوضات السابقة.

ولقد لخص وزير العدل الاسرائيلي يوسي ساريد وجهة نظر التيار العلماني من مسألة اللاجئين، على اعتبار انها مقتل الدولة الاسرائيلية، بالقول في الاجتماع الرابع للمفاوضات المتعددة الاطراف التي انعقدت في تونس في عام 1993، وكان وقتها نائباً لوزير الخارجية: «يعرف الفلسطينيون جيداً ان هؤلاء اللاجئين لن يكونوا قادرين على العودة للاقامة في اسرائيل».

وفي السياق ذاته كان شلومو غازيت مدير الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية السابق قد قال: «ان عودة اللاجئين الفلسطينيين ستؤدي الى زيادة كبيرة في عدد الجالية العربية في اسرائيل، مما سيخلق حصان طروادة في داخل الدولة الاسرائيلية».

اذن وكما هو واضح فإن اسرائيل في عهد الحكومة الحالية، وفي عهد اية حكومة ستسفر عنها الانتخابات المقبلة، ليكودية ـ أم عمالية تعتبر عودة اللاجئين الفلسطينيين كلهم أو نصفهم أو اقل من ذلك الى قراهم ومدنهم في الاراضي المحتلة منذ عام 1948 مقتلاً مؤكداً للدولة الاسرائيلية. فالصراع من وجهة نظر الاسرائيليين ومن وجهة نظر معظمنا ايضاً هو صراع ديموغرافي على الارض يعتبر السلاح الحاسم فيه هو السلاح السكاني.

ربما يتغلب اصحاب وجهة النظر السياسية على اصحاب وجهة النظر التوراتية ويتم التوصل الى حل وسط في الشكل والمضمون لمسألة القدس والمسجد الأقصى «جبل الهيكل»، لكن ما يجب ان يكون معروفاً، في ظل واقع اليوم وموازين القوى الحالية، هو ان الاسرائيليين لا يمكن ان يقبلوا، حتى وان كان الخيار المزيد من المواجهات والحروب العربية ـ الاسرائيلية، بالشق الآخر من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم التي اضطروا لمغادرتها في عام 1948 وفي الاعوام اللاحقة.

قد تقبل اسرائيل بتعويض على اللاجئين وفقاً لنص الشق الآخر من هذا القرار وقد تقبل بعودة رمزية، انسانية وديكورية، لعشرات الألوف من هؤلاء، لكنها لن تقبل ابداً بعودة جماعية ستكون حتى على المدى المنظور النهاية المحتومة لدولة اسرائيل بوضعها الحالي، على اعتبار انها دولة اليهود التي يعيش فيها العرب كأقلية تحظى ببعض الحقوق الانسانية والسياسية فقط.

وبالطبع ايضاً فإن المفاوض الفلسطيني، الذي رفض على لسان الرئيس ياسر عرفات نفسه وعلى ألسنة كبار المسؤولين في منظمة التحرير والسلطة الوطنية أي مساومة لا على اساس اللاجئين مقابل القدس ولا على اساس القدس مقابل اللاجئين، سيبقى يصر على ان حق العودة حق مقدس من حيث المبدأ وعلى اسرائيل ان تعترف بمسؤوليتها التاريخية عن هذه المأساة وأن تسلم بهذا الحق وفقاً للقرار الدولي رقم 194.

وبالمقدار ذاته فإن الأردن الذي يستضيف العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، حيث تشير التقديرات الى ان عدد هؤلاء يبلغ الآن نحو مليون و مائة وسبعين الف لاجئ بالاضافة الى نحو سبعمائة ألف نازح، سيبقى يصر على ان حق «العودة» مقدس ولا تهاون فيه وسيتمسك بأن هؤلاء اللاجئين والنازحين يجب ان يعودوا الى مدنهم وقراهم التي غادروها في الهجرات المتلاحقة.

انها مشكلة حقيقية وفعلية ولذلك فإن الاقتراح الذي نُسب الى الرئيس الأميركي بيل كلينتون والذي تجري كل هذه اللقاءات والاتصالات بشأنه تضمن نصاً على امكانية عودة هؤلاء اللاجئين الى الضفة الغربية وقطاع غزة وعودة بعضهم «لاعتبارات انسانية» الى مدنهم وقراهم الأصلية والى مناطق قريبة من هذه المدن والقرى.

والواضح استناداً للقراءات المتعددة لهذا النص وللآراء المتداولة خلال الاتصالات واللقاءات المتواصلة أن عودة اللاجئين بعددهم، الذي يقدر بنحو أربعة ملايين ونصف المليون، الى مدنهم وقراهم في الأرض المحتلة منذ عام 1948، مستحيلة وأن استيعاب بعض هؤلاء سيكون في الضفة الغربية وقطاع غزة.

لكن يبقى هل ان صيغة كهذه، على افتراض ان القيادة الفلسطينية ستقبل بها، كفيلة بحل قضية معقدة وتتداخل فيها عوامل كثيرة؟

والجواب هو انه اذا كانت هذه الصيغة ستحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أو بعضهم، فإن المؤكد انها لن تحل مشكلة اللاجئين الآخرين، في الأردن وفي غيره، فهؤلاء سيبقون يتمسكون بحق العودة حتى وإن تم تعويضهم واستيعابهم اقتصاديا في الدول التي يقيمون فيها.

ستبقى قضية اللاجئين لغماً قابلاً للانفجار في أية لحظة، اذا لم تُحل الحل المقنع وعلى اساس حق العودة. وهنا، مرة اخرى، فإن الأردن سيكون المتضرر الأكبر وذلك لعوامل ديموغرافية وسياسية كثيرة تعرفها الحكومة الأردنية وتعرفها السلطة الوطنية الفلسطينية كما وتعرفها الأطراف المعنية الأخرى كلها من دون استثناء.