الألفان (2) الحصَّاد

TT

شهدت في حياتي وفي عملي الصحافي معارك سياسية كثيرة. وشاهدت وجوهاً تلمع ولا تعيش، ورجالاً يشرقون في سرعة ويغيبون في سرعة. وشاهدت حملات انتخابية كثيرة وغطيت حملات كثيرة. من انتخابات فرنسا الى انتخابات ايرلندا الى انتخابات كندا الى بريطانيا، الى، طبعا،ً لبنان. وفتحت امامي الصحافة ابواب السياسيين واحياناً قلوبهم واحياناً خصوماتهم. وعلى قدر ما تكون العلاقة بين صحافي ورئيس، كانت لي علاقات متراوحة الود مع جميع رؤساء لبنان ومع اكثر رؤساء الحكومات وتربطني علاقة اخوة عميقة بالرئيس حسين الحسيني، لا علاقة لها بالبرلمان ولا بالصحافة. وتزداد علاقتي عمقاً بالرؤساء بعد ذهابهم، لأن وقتهم يتسع واصدقاءهم يقلون. وكان ود غامر يربطني بالرئيس صائب سلام، الذي لم يكن يترك مقال الخميس يمر من دون ملاحظة، او تصويب، او عتب، او تأييد. وقبل عام من وفاته ذهبت اعايده بالفطر، وكان قد بلغ الثالثة والتسعين ولم يعد يقوى على الوقوف. صافحته واكملت طريقي مفسحاً في المجال لبقية المهنئين، لكنه نادى عليَّ بصوت خافت ما لبث ان ارتفع بطيبة فائقة: «عن شو كاتب بكرا؟».

كان سبب العلاقة الخاصة مع الرؤساء على مدى السنين الماضية انها كانت خالية من اي شيء خاص او لمحة خاصة او طلب خاص او ايماءة او تلميح. ولم اذهب مرة في حياتي الى موعد مع رئيس في الحكم بطلب مني، بل ذهبت دائماً، وبدون استثناء، برغبة كريمة من اصحابها. وسبب ذلك خوفي ان انا طلبت موعداً ان يعتقد الرئيس ان لدي ولم يكن لدي ما هو اهم من الحرص على وقت الرئيس. ويتغير الامر بعد نهاية المسؤولية، فاصبح انا من يبدي الرغبة، لأن وقت المسؤول اصبح ملكه ولم يعد ملك الدولة، لذلك اعطي نفسي حرية اشتراط «المجدرة» عندما يدعوني الرئيس الياس الهراوي. واضع الشرط نفسه في الغداء الاسبوعي مع الرئيس امين الحافظ يوم الجمعة. وكان الرئيس صائب سلام رحمه الله يغتنم دعوتي او دعوة سواي الى الغداء لكي يتسلل الى حبتين اضافيتين من الزيتون اذا قامت السيدة تميمة عن السفرة الى المطبخ، لسبب او لآخر، لمائة سبب او بلا سبب على الاطلاق، لم تربطني بالرئيس رفيق الحريري علاقة تتعدى اللقاء الرسمي. ويغلب على هذه العلاقة الكثير من الاحترام، على الاقل من جانبي، كما يغلب عليها الكثير من لياقته. وهذا العام جعلني رفيق الحريري اشهد «ابرع» حملة انتخابية شهدتها في السنوات الاربعين الماضية. لقد خاض معركة «العودة» الى الحكم بطريقة لم اعرف مثلها في لبنان او في الخارج. لقد كانت حملته خليطاً من الطريقة «البيروتية» والطريقة الاميركية والاسلوب البريطاني. خاضها في بيروت وفي «سوق البرغوت» وفي «حي اللجا» وخاضها في زيارة البيت الابيض و10 دواننغ ستريت والاليزيه. وترك خمسة آلاف عامل انتخابي ينظمون المعركة على 50 الف مقترع. وكان اول سياسي يحصد بيروت وزعاماتها وعائلاتها منذ مائة عام.