إلى أين يقود تهديد واشنطن لسوريا؟

TT

التهديد الأميركي المتصاعد لسوريا، ليس موقفا منفردا، وليس موقفا منفصلا عما يجري في ساحات عربية أخرى تتعامل معها الولايات المتحدة الأميركية. هذا التهديد تكميل للموقف الأميركي الذي يتعامل مع فلسطين ولبنان والعراق وايران، وهو بهذا المعنى تعبير عن السياسة الأميركية التي بدأت مع شن الحرب على العراق، مع فارق أساسي وهو أن انطلاق المعركة الأميركية كان تعبيرا عن طموح، بينما يشكل اتساع نطاق المعركة الأميركية تعبيرا عن الفشل.

الفشل في العراق يقود الولايات المتحدة إلى تهديد سوريا من أجل أهداف داخلية تتعلق بانتخابات الرئاسة، فحتى لا تبقى أجواء الفشل مخيمة على أجواء الحملة الانتخابية، يتم حرف أنظار المواطن الأميركي نحو ساحة عمل أخرى كي يقال للناخب الأميركي أن سوريا تنطوي على خطر إرهابي جديد، لعل ذلك يحيي في ذاكرته أجواء العملية الإرهابية التي شنت يوم 2001/9/11، وحشدت مشاعر المواطنين الأميركيين حول الرئيس جورج بوش وإدارته.

إن تهديد سوريا بالحرب أو الحصار أو الضغط، هو جزء أساسي من أهداف الحرب الأميركية ضد العراق، إذ يومها روجت الإدارة الأميركية أنها تريد احتلال العراق من أجل أن يكون العراق منطلقا لتغيير الأنظمة العربية في كل الدول المحيطة به. وتطبيقا لذلك ذهب كولن باول إلى دمشق وقدم «لائحة المطالب»، وهدد وتوعد بأنه سيراقب مقدار التوافق السوري معها. وتطبيقا لذلك هددت كونداليزا رايس بأن على دمشق أن تدرك بأن الولايات المتحدة أصبحت مجاورة لها (في العراق). ولم تتصرف دمشق إزاء كل ذلك بنزق، وقدمت الكثير مما تستطيع تقديمه لتساهم في هدوء المنطقة، ولكنها لم تتوافق مع المطالب الأميركية حين بدأ الأمر يتعلق بالمصالح والسيادة، وحين اتضحت الصورة على هذا الشكل تلاقى الموقفان الأميركيان المتناقضان، الموقف المبدئي الذي يريد تهديد سوريا عبر العراق، والموقف العملي الذي يريد حرف أنظار الأميركيين نحو سوريا بسبب الفشل في العراق.

وتدخلت عوامل أخرى في هذه الصورة لتزيد في سوء موقف الإدارة الأميركية، كان أبرزها التقرير الذي قدمه رئيس فريق الخبراء الأميركيين (1400 خبير) الذين انتشروا في العراق طولا وعرضا بعد الاحتلال باحثين عن أسلحة الدمار الشامل التي اعتبر وجودها السبب الأساسي للحرب. لقد قال رئيس فريق الخبراء إنه لا وجود لأسلحة دمار شامل في العراق، وشكل ذلك صدمة كبيرة للإدارة الأميركية، صدمة على صعيد الوضع الداخلي، وصدمة على صعيد ثقة المواطن الأميركي بإدارته. ثم جاءت تصريحات هانز بليكس المسؤول الدولي عن التفتيش في العراق قبل الحرب لتزيد في حرج الإدارة الأميركية. قال بليكس: إن العالم لن يصدق الولايات المتحدة بعد الآن حين تتهم دولة من الدول بأنها تمتلك أسلحة دمار شامل.

كيف ردت الإدارة الأميركية على هذا الوضع الذي حوصرت فيه؟

قامت بخطوة تراجعية مدوية، حين عادت من جديد إلى مجلس الأمن تطلب منه قرارا يدفع دول العالم إلى مشاركتها في السيطرة على الوضع العراقي المنفلت، وبدا لأيام عدة أن الولايات المتحدة تريد أن تتراجع عن تحديها السابق لمجلس الأمن يوم شنت الحرب على العراق ضد إرادته، محاولة فرض نظام عالمي جديد يقوم على سيطرة القطب الواحد. ورحبت جميع دول مجلس الأمن بهذه الخطوة التراجعية، وطالبت بقرار يتضمن جدولا زمنيا لإعادة السيادة إلى العراقيين. ولكن هذه الدول التي رحبت فوجئت بالموقف الأميركي القديم نفسه، فتعطل النقاش في المجلس، وفقدت الخطوة الأميركية زخمها، وبقي الخلاف الدولي على حاله.

جنبا إلى جنب مع مناورة مجلس الأمن، قامت الإدارة الأميركية بخطوة تصعيدية كبيرة ضد سوريا، وذلك حين شجعت إسرائيل على قصف موقع داخل الأراضي السورية، هو القصف الأول من نوعه منذ انتهاء حرب اكتوبر (تشرين الأول) 1973، فاتحة بذلك الباب أمام احتمال حرب إقليمية شاملة. وبينما كان العالم كله يدين العدوان الإسرائيلي ويعلن تضامنه مع سوريا، كان الرئيس الأميركي ينفرد بالقول: لا توجد قيود أمام إسرائيل فيما تريد أن تفعله لحماية أمنها، وعبر بذلك عن ضعف إحساسه بمسؤولية بلده عن السلم العالمي، حتى أنه عطل صدور قرار عن مجلس الأمن يدين الغارة الإسرائيلية، ولجأ بدلا من ذلك إلى محاولة إدانة سوريا، فتحرك من جديد النقاش الأميركي الداخلي حول ما يسمى بـ«قانون محاسبة سوريا»، وتم إعلان موافقة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب على ضرورة إقرار القانون. لقد أصبح هذا القانون «فزاعة» التعامل الأميركي مع سوريا، فإذا برز موقف توافق سوري ـ اميركي اختفى أي حديث عن إقرار القانون، ولكن ما أن تبرز نقطة خلاف سورية ـ أميركية حتى يتجدد النقاش حوله، حتى لتبدو الديمقراطية الأميركية من خلاله وكأنها لعبة في أيدي رجال السياسة. والطريف في أمر هذا القانون أن بنوده تصاغ لدى كل مناقشة بطريقة مختلفة، فتجري إضافة بنود إليه حسب التغيرات السياسية. مرة يكون البند السياسي في القانون معاقبة سوريا لأنها تعرقل التسوية السياسية، ومرة يصبح دعم الإرهاب هو البند الأساسي، ثم يظهر فجأة بند يدعو إلى انسحاب سوريا من لبنان.

وجنبا إلى جنب مع مناورة مجلس الأمن، قامت الإدارة الأميركية بخطوة تصعيدية أخرى ضد سوريا وضد المنطقة كلها، حين أغرت تركيا بثمانية مليارات دولار من أجل إعلان موافقتها على إرسال 10 آلاف جندي تركي إلى العراق. لقد أرادت الإدارة الأميركية الحصول على هذه الموافقة التركية لتغطية فشلها في مجلس الأمن، ولكن هذه الخطوة تنطوي على مضاعفات كبيرة تمس المنطقة بأكملها، ويمكن تلخيص هذه المضاعفات بأمرين:

الأمر الأول: وجود تخطيط أميركي معلن، يقول بضرورة السيطرة الأمنية على المنطقة العربية بواسطة القوتين العسكريتين المتمثلتين بإسرائيل وتركيا. وبينما تحبذ إسرائيل الاندماج في هذا المخطط بشراهة، تتريث تركيا بشأنه بسبب علاقاتها الخاصة مع العالمين العربي والإسلامي، لولا أنها تعرضت لضغوط وإغراءات أميركية. وها هي الآن تواجه حالة انقسام شعبي تعبر عن معارضة لإرسال الجيش التركي إلى العراق.

الأمر الثاني: إن هذا التوجه الأميركي لاختيار دولة مجاورة للعراق، ودفعها باتجاه التعامل مع شؤونه الداخلية، سيحدث ردود فعل حتمية في كل من سوريا وايران، فسوريا لا تستطيع أن تبقى ساكنة بينما يحدث تغيير استراتيجي عند حدودها الشرقية، وايران لا تستطيع أن ترى تحركا تركيا يخل بتوازن القوى الإقليمي ثم تبقى ساكنة من دون أي رد فعل. كما أن هذا النشاط التركي سيحرك الموضوع الكردي من جديد، وللموضوع الكردي علاقة غير مجهولة بكل من سوريا وايران. وهنا لا بد أن نلاحظ بدقة الزيارة المفاجئة التي قام بها مسعود البرزاني إلى دمشق قبل أسابيع، ومع بداية البحث بإرسال جيش تركي إلى العراق. وتشكل هذه الإشارات تحديدا لوجهة السير المقبلة، حيث ستشهد المنطقة تطورات أشد وأعنف، تتجاوز العراق إلى كل ما حوله، وتكون النتيجة أن ما تسعى إليه الولايات المتحدة، أو ما تعتبره دعما لها يساعدها في النجاح في الموضوع العراقي، سيقودها إلى فشل جديد في السيطرة على منطقة مضطربة، بسبب سياساتها غير المحسوبة.

لقد ارتكزت السياسة الأميركية في المنطقة خلال ولاية الرئيس جورج بوش على قاعدتين: احتلال العراق، وخطة «خريطة الطريق» لمعالجة الموضوع الفلسطيني، وإذا كان الكل يتحدث الآن عن فشل أميركي في العراق إلى درجة البحث عن مساعدة تركية، فإن الفشل الأميركي في معالجة الموضوع الفلسطيني بارز للعيان بصورة اوضح، حتى أن الأمر يتجاوز الفشل إلى حد اعتبار «خريطة الطريق» خطة ميتة، وهي خطة أميركية بالأصل روج لها الرئيس بوش على أنها حصانه الرابح، وها هو الحصان يسقط في السباق من دون أن يكترث به فارسه. وبدلا من معالجة الفشل في هاتين الساحتين، تتطلع الإدارة الأميركية إلى توسيع رقعة المعركة، فيتم إدخال إسرائيل وتركيا إلى حلبة الصراع، ويتم تهديد لبنان وسوريا وايران، ويتم تخويف الأكراد الذين هم جزء أساسي في المعادلة العراقية، ليلوح بعد ذلك في الأفق اضطراب أكبر، وفشل أميركي أكبر.

إن الملك عبد الله ملك الأردن هو من أبرز حلفاء أميركا في المنطقة العربية، ومن موقعه هذا قال قبل أيام في استوكهولم «لسوء الحظ، فإن الولايات المتحدة ساذجة بعض الشيء، أو تفتقر للحساسية الثقافية التي هي بحاجة لها».