ذاكرة الجرائد

TT

اوصاني زميل في دبي على نسخة من رواية «ذاكرة الجسد» للروائية الجزائرية احلام مستغانمي. وفوجئت بان الرواية اصبحت في طبعتها الثامنة عشرة. وقررت ان اعيد قراءتها لتمضية الساعات الثلاث، بدل ان اقلب المجلات التي تقدمها الشركة للمسافرين من اجل الا يثقلوا انفسهم بأي قراءة سياسية او ذات معنى على الاطلاق، حرصا على راحتهم.

اعدت قراءة «ذاكرة الجسد» كأنني اقرأها للمرة الاولى. وكنت افكر في تلك الضجة التي اثيرت قبل ثلاثة اعوام حول ان الشاعر العراقي سعدي يوسف هو كاتب الرواية الحقيقي وان الكاتبة الجزائرية ليست سوى واجهة وتوقيع. وقلت في نفسي الآن، كما قلت آنذاك، اذا كان في امكان سعدي يوسف ان يكتب رواية من هذا النوع، فلماذا يمنحها الى سواه. وكيف لأي كاتب ان يمنح روايته مناخاً لا يعرفه ولم يعشه ولم يتشمم عطره وفوحه وبوحه. ولماذا كتب سعدي يوسف تلك الرواية الرائعة التي لم يوقعها، ولم يكتب سواها فيما بعد؟

واذا استطاع كاتب ان يعطي قلمه الى سواه، فهل يستطيع ان يمرر اليه ايضاً نفسه وروحه ودقات قلبه؟

كنت قد قرأت معظم الصحف التي لا اقرأها عادة، وانا في حالة الانتظار. وشعرت بشيء من السوداوية. فأنا اعتقد ان الانسان الناجح لا يمكن ان ينجح وحده. وقبل ان يفكر في نجاحه عليه ان يتمنى النجاح لسواه، لان النجاح مناخ، وغابة وليس شجرة، وحديقة وليس زهرة. وكلما شاهدت هذه الكدسات من الصحف الباهتة اخاف على صحيفتي. واخاف على الصحف الناجحة الاخرى. لا شيء يصنع النجاح مثل المنافسة وعلو المقاييس والتحفز على الاجتهاد. ويؤسف ان بعض الصحف او المجلات يصدر وكأنه مكتوب في منامة عامة او في مشخرة. فلا نبض ولا هم ولا مشاعر ولا جديد ولا اضافة ولا لمعة ولا شيء. اي شيء. سوى صفحات تتكرر في غفلة عن الليل والنهار وفي غفلة عن الصاحين والنائمين من القراء.

واذ اقرأ في «ذاكرة الجسد» ألهث خلف الراوي وهو يقول: «هناك صحف يجب ان تغسل يديك ان تصفحتها، وان لكن ليس للسبب نفسه كل مرة. فهنالك واحدة تترك حبرها عليك واخرى اكثر تألقا تنقل عفويتها اليك. الان الجرائد تشبه دائما اصحابها، تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا، بملامح متعبة وبوجه غير صباحي غسلته على عجل عناوين كبرى. كثير من الحبر.

كثير من الحبر الاسود. كثير من الدم. وقليل من الحياء. هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الاولى ببدلة جديدة كل مرة. هنالك جرائد تبيعك نفس الاكاذيب بطريقة اقل ذكاء كل مرة...».

اغار على الصحافة. انها مهنة لم احب سواها ولم احلم بغيرها ولم ارد غيرها. وكلما ارتفعت مهنتي كلما ارتفعت معها. وكلما كثر الناجحون فيها كلما اصبحت هناك قمة اكبر لأي نجاح يمكن ان احققه. ليس هناك ما هو اثقل من الخيبة. ولا ما هو اوطأ من الفشل ولا اردأ من الفاشل الذي يصر على اعطاء الدروس في النجاح. خصوصاً في هذه المهنة.