النجاح في العراق مشكوك فيه وبوش الضحية الأولى للفشل

TT

اليقين الأميركي بتحقيق الانتصار في العراق يتعرض لاهتزازات ملحوظة في سيل التعليقات التي تنشر هذه الأيام، فكلمة «المستنقع» التي كانت من مفردات الخبرة الأميركية في فيتنام، والتي حرص كثيرو ن طيلة الأشهر الماضية على تجنب استخدامها لما تثيره من مخاوف وما تستدعيه من كوابيس، عادت الى الظهور في الصحافة الأميركية، فمن الأوصاف التي تطلق على المأزق الذي تورطت فيه القوات الغازية في العراق، وفي حين كان الخطاب الأميركي يتحدث في البداية عن نصر أكيد هناك، وجدنا آراء ظهرت مؤخرا تحذر من الفشل، الذي لوح به هنري كيسنجر في مقالته التي نشرتها «الشرق الاوسط» (الأحد 10/12)، وهو يحث أوروبا على الوقوف الى جانب الولايات المتحدة في العراق، لان البديل في رأيه هو كارثة تحل بالغرب كله.

على صعيد آخر، ففي حين ظل مؤيدو الحرب يستشهدون بتجربة الولايات المتحدة في اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، واعتبروها وصفة ناجحة ومضمونة المفعول ستؤتي ثمارها في العراق، فإننا وجدنا كيسنجر في مقالته الأخير ينتقد الفكرة، ويقول ان «الحالتين مختلفتان كلياً»، الأمر الذي ينسف عملية القياس بينهما التي ألح عليها كثيرون وهم يسوغون الغزو ويطمئنوننا الى النتائج «الباهرة» التي ستترتب عليه.

بشكل أو بآخر، بوسعنا ان نقول ان مقالة كيسنجر نموذج لخطاب المراجعة الذي تشير إليه، لما تضمنه من اطروحات مهمة، وان لم يخل من خطأ في التشخيص والمعلومات، آية ذلك مثلا انه وهو يقارن بين المانيا والعراق اعتبر ان النازية ارتبطت بالنظام المهزوم في المانيا، وذهب الى أن فكرة البعث لم تكن مربوطة بصدام حسين فقط، بل بالخلاف السني الشيعي، وهي معلومة غير صحيحة، تكشف عن مدى جهل النخبة الاميركية بأوضاع المنطقة وخرائطها السياسية.

من ناحية ثانية فإن كيسنجر يصف المقاومة العراقية بأنها «حرب عصابات»، ويذهب الى ان الذين يقومون بالعمليات ضد القوات الأميركية هم بقايا البعث والحرس الجمهوري وجماعات أخرى ربما تلقى التشجيع من سوريا وإيران، ثم يخلص الى ان العراق يمكن أن يصبح وطناً جديداً للإرهابيين، وهو ما ينبغي أن يقلق أوروبا أيضاًَ، وليس أميركا وحدها، ولأجل ذلك فإنه يدعو الى ضرورة دعم المانيا وفرنسا للوجود الاميركي في العراق، ويطالب بأن يبقى الأميركيون هناك لوقت طويل ومعقول لتحقيق النموذج الديمقراطي المراد بناؤه. وذلك بدوره من قبيل التشخيص المغلوط، الذي يحصر المقاومة في بقايا النظام السابق والعناصر المتسربة من الخارج بتشجيع من الجيران، ولئن كان هؤلاء بين عناصر المقاومة، إلا ان المرء لا بد أن يستغرب كيف فات عليه حتى اسقط تماماً ان بين العراقيين الوطنيين من يعتبر ان المقاومة هي حقهم الطبيعي والمشروع في مواجهة قوة الاحتلال، ولذلك فإنهم انخرطوا في سلكها دون أن يكونوا منتمين بالضرورة الى هؤلاء أو هؤلاء، وهو منطق يقود الى نتيجة أخرى مغلوطة مفادها ان المشكلة الحقيقية في العراق ليست الاحتلال، وإنما وجود «الإرهابيين» على أرضه (لاحظ ان ذلك نفس المنطق الذي يصور به المشهد الفلسطيني، حيث يتم التركيز دائماً على منظمات المقاومة التي توصف بأنها «إرهابية»، في حين لا يذكر الاحتلال الذي هو أصل الداء وأس البلاء).

ان التخويف من الفشل يثير على الفور سؤالاً حول احتمالات النجاح ومعاييره، صحيح ان ثمة سؤالاً آخر أكثر أهمية لا يزال معلقاً، يطعن فيما تدعيه واشنطن لنفسها من حق في اجتياح بلد آخر وتغيير نظامه، ومن ثم ينصب على شرعية التدخل الاميركي في العراق من أساسه، إلا أننا سنتعامل مع ما حدث بالفعل وليس ما كان ينبغي أن يحدث.

لقد اعتبر كيسنجر ان معيار النجاح يقاس بقدرة الادارة الأميركية على اقامة نموذج ديمقراطي كامل في العراق، الأمر الذي يستدعي تساؤلاً عن امكانية تحقيق ذلك الهدف.

سوف نصدق ـ مؤقتا ـ ان اقامة نظام ديمقراطي في العراق من أهداف الغزوة الأميركية، ونحاول أن نتحرى المساعي الأميركية لاقامة نموذج ديمقراطي آخر في أفغانستان، باعتبار ان ذلك قد يساعدنا على تصور هيكل النموذج المنشود في العراق، ذلك ان من يتابع المشهد الافغاني من هذه الزاوية يلاحظ ثلاثة أمور، الأول ان الوجود الأميركي هناك تجاوز السنتين ولم يتبلور شيء واضح في الهيكل الديمقراطي المفترض، الثاني ان ثمة جهوداً تبذل الآن لصياغة دستور للبلاد، والمطلب الأميركي الرئيسي فيه يكاد ينحصر في التخفيف من الطابع الإسلامي للدولة، وكان هذا الموضوع هو السبب في تعليق اجتماعات «اللويا جيركا» التي تضم ممثلي الشعب الافغاني، حين اقترح احد الشخصيات الافغانية ان تسمى الدولة جمهورية افغانستان الإسلامية، وهو ما فاجأ «أولي الأمر»، فرفعوا الجلسة وانفض اجتماع اللويا جيركا، التي لم تنعقد بعد ذلك، ولا يزال الموضوع معلقاً منذ سنتين، أما المطلب الثالث فهو ان الولايات المتحدة تتمسك بالسيد حامد كرزاي رئيساً للدولة في الانتخابات «الديمقراطية» القادمة، بمعنى ان الكل قد يعطي الحق في الترشيح ـ بمنتهى الديمقراطية ـ ولكن كرزاي هو الذي ينبغي أن ينجح في نهاية المطاف، في التجربة الأفغانية يريدها الأميركيون ديمقراطية تخدم مصالحهم ولا تأتي بمن يناوئهم، وأحسب أن الأمر لن يختلف كثيراً في العراق، وإنما سيكون الاصرار أشد، لان للولايات المتحدة أهدافا:ً ليست خافية في موضوع النفط ـ والاطماع الاقتصادية غير موجودة في الحالة الافغانية ـ ولذلك فان أي حديث عن «ديمقراطية كاملة» كتلك التي يتحدث عنها كيسنجر لا صدقية له من أي باب، وغاية ما يريده الاميركيون في العراق هو هيكل أو هياكل تعطي انطباعاً ديمقراطياً دون أن تؤدي الوظيفة الديمقراطية، ولئن قبل بذلك بعض أصحاب المصالح الذين يستمدون شرعيتهم من المساندة الأميركية، فالقدر المتيقن انه سيكون مرفوضاً من كل القوى الوطنية والمراجع الدينية الأخرى، وهو ما يعني أن اقامة هياكل من ذلك القبيل سيكون خطوة قصيرة العمر، ثم انها ستكون عنصراً يسهم في اشاعة الاضطراب وعدم الاستقرار.

أياً كانت الجهود التي تبذل الآن في العراق فإن ثمة مؤشرات قوية تدل على ان استقرار الأوضاع هناك أمل يتعذر تحقيقه في الأجل المنظور، بل ان هناك ما يشير الى ان الشتاء قد يأتي مستصحباً معه عواصف جمة، تنضاف الى الانفلات الأمني الحاصل الآن في البلاد، وما حكاية حكومة مقتدى الصدر التي يزعم تشكيلها جنباً الى جنب مع الحكومة التي شكلها الاحتلال، ثم مسألة القوات التركية التي تريدها واشنطن وتترقب وصولها على أحر من الجمر، في حين يرفضها الأكراد بشدة، ويعارض استقدامها أغلب أعضاء المجلس الانتقالي، هاتان المسألتان سوى مجرد نموذج للعواصف المحتملة، ناهيك عن ان استمرار الاحتلال ذاته يفترض ان يكون سبباً وجيهاً لاستمرار المقاومة وتصعيدها.

ليس صحيحاً ان الفشل في العراق سيكون كارثة على الغرب كما ادعى كيسنجر، لأن الذي سيدفع ضريبة ذلك الفشل هو ادارة الرئيس بوش، وعصبة المتطرفين الذين يحيطون به، لانه اذا وقع فان الرئيس سوف يسقط بجواره في الانتخابات الرئاسية القادمة، ودوي ذلك السقوط سوف يكون شديد الوطأة وبعيد المدى، بحيث يتجاوز حدود الولايات المتحدة، ويكون له صداه في اسرائيل أيضاً.

من أسف أن ذلك قد يغرق العراق في بحر من الفوضى، ولكن يبدو أن الفوضى قادمة لا محالة، سواء نجح الأميركيون أم فشلوا، لأننا لا نستطيع أن نتفاءل أو ننتظر خيراً طالما ظل الاحتلال مستمراً.