... الفضائيات العربية ما لها وما عليها!

TT

الأميركيون أكثر من عاتبين على القنوات الفضائية العربية، محطة «العربية» على وجه التحديد، وجماعة صدام حسين داخل العراق وخارجه، والأهم الذين خارجه، يتميزون غيظاً وغضباً، وأهل مجلس الحكم الانتقالي يهزون العصا ويهددون ويتوعدون، فكلهم، كل هؤلاء، ينظرون إلى النصف الفارغ من الكأس فقط، وكل جهة ترى أن الحق إلى جانبها، وأن هذه الفضائيات يجب أن تكون بوقاً لها وسلاحاً في يدها ضد غيرها.

الأميركيون لا يطيقون كلمة «مقاومة» ويتشاءمون من رؤية صور الملثمين على شاشات هذه الفضائيات وتصيبهم قشعريرة عصبية كلما أطل صدام حسين بصوته أو بصورته عبر إحدى هذه الشاشات، وهم منزعجون من طريقة تغطية الأحداث التي تقع يومياً ويفضلون وصف العمليات التي تنسب إلى هذه «المقاومة» بأنها عمليات تخريبية.

وأهل «مجلس الحكم الانتقالي»، ضد وصف القوات الأميركية بأنها قوات احتلال، وهم في بعض الأحيان يستبدلون التلميح بالتصريح ويضغطون من أجل استبدال كلمة «الاحتلال» بـ «التحرير»، ولعلنا لا نتجنّى على الحقيقة، إذا قلنا إن بعض هؤلاء عندما جاء دوره ليصبح رئيساً لم يتورع عن الاقتداء بصدام حسين، وإن هو لم يرتد الملابس العسكرية ولم يتمنطق بمسدس من صناعة خاصة ولم يضحك بالطريقة المعروفة المعهودة التي كان يضحك بها الرئيس المخلوع عندما كان لديه متسع من الوقت للضحك.

أما بالنسبة لأتباع صدام حسين في الداخل والخارج، والذين في الخارج هم الأهم، فإن الشرر يتقادح من عيونهم، فهذه الفضائيات، رغم انها هي التي كسرت وتكسر العزلة عن الرئيس المخلوع ببث رسائله وأشرطته وتوجيهاته «الهمايونية»، فإنها متزندقة وإمبريالية ومارينزية، طالما أنها تحاول أن تكون غير منحازة وتتعامل مع المعلومة كمعلومة والخبر كخبر والحقيقة كحقيقة.

إن الشيعة غير راضين عن هذه الفضائيات، وكذلك السنة، وأن الأكراد لهم ألف ملاحظة وملاحظة عليها، وإن التركمان عاتبون والآشوريين والكلدانيين يشتكون من الإهمال وعدم الإنصاف، ثم ان معظم الدول المجاورة للعراق، باستثناء استثناءات قليلة، لها ملاحظات واعتراضات وبعضها لا يتورع عن القسم بأغلظ الأيمان بأن هناك مؤامرة يقف خلفها الاستكبار العالمي ورامسفيلد وبريمر ونبيل خوري.

كيف يمكن إرضاء كل هذه الأطراف المتعارضة المتصارعة التي يمسك كل واحد منها بخناق الآخر ويدّعي أن الحق إلى جانبه وأن قضيته هي العادلة وأن الفضائيات المشار إليها يجب أن تقف إلى جانبه ويجب أن تتبنى وجهة نظره؟!..

في «منتدى الإعلام العربي»، الذي انعقد أخيراً في دبي، شهدت قاعات الاجتماعات وموائد «الورش» الجانبية، ما تشيب له رؤوس الأطفال، ففرسان الجمل الثورية والمناضلون من عواصم الاسترخاء البعيدة، يريدون من هذه الفضائيات، أو بعضها على وجه الدقة والتحديد، أن تنتشل الزير من البئر وأن تحيي العظام وهي رميم وأن تقضي على الفساد والمفسدين في الوطن العربي كله، ومن خلفه العالم الإسلامي، وأن تعيد الى صدام حسين حكماً لم يحافظ عليه مثل الرجال، وأن تستبدل القمع الآسيوي بالديمقراطية.

في هذا المنتدى، الذي سادت بعض جلساته ظاهرة صراع الديكة، وخيّمت عليها المعارك البلاغية والمزايدات، ضُربت هذه الفضائيات ضربَ غرائب الابل وحُزمت حزم السلمة وقعقع لها بأكثر من شنان وغُمزت جوانبها كتغماز التين وبرزت كل المحاور العراقية العاتبة والغاضبة.. صدام حسين وأعوانه ومريدوه في الخارج والذين يعتبرون القوات الأميركية قوات تحرير وليس قوات احتلال وأنصار مجلس الحكم الانتقالي المصرون على أنهم هم الجهة الشرعية وأن الشرعية لهم وحدهم.

طالب بعض المتحدثين بأن تمرغ الفضائيات أنف أميركا بالتراب وأن توجه لإسرائيل الضربة القاضية وأن تكون الرمح العربي في معركة صراع الحضارات وأن تمكن عرب ومسلمي الولايات المتحدة من الانتصار على اللوبي الصهيوني وأن تحل مشكلة المياه في هذه المنطقة اليباب القاحلة.

لا شك في أن الفضائيات ارتكبت أخطاء كثيرة في العراق، وربما في غير العراق، وهي أخطاء مهنية بالدرجة الأولى، لكن بصورة عامة يمكن القول إن بعض هذه الفضائيات حاولت توخي الدقة بقدر الإمكان وحاولت أن تنأى بنفسها عن الانحياز الى جانب طرف على حساب الأطراف الأخرى، وأن يكون نقل الحقيقة والخبر الصحيح للمشاهدين بغض النظر عما إذا كان هذا سيغضبهم أم يرضيهم همها الأول وواجبها ورسالتها المهنية.

لقد سقط نظام صدام حسين بسرعة لم تكن متوقعة، فوجدت هذه الفضائيات نفسها في خضم بحر متلاطم من المستجدات والأحداث، وكان عليها أن تسبح في هذا البحر دون أن ترتطم بموجة عاتية وتحاشت وهي تتحرك في غابة من البنادق ووسط كل هذا الحشد من الميلشيات المسلحة والأحزاب والتنظيمات والأذرع المخابراتية للدول المجاورة والبعيدة أن لا تُحسب على هذه الجهة أو تلك وأن لا تضع نفسها في سلة هذا التنظيم أو ذاك.

كان لا بد من التوازن والحسابات الدقيقة في وسط ذلك الفلتان الأمني الهائج، ولعل ما لا يعرفه قساة القلوب والمتحاملون على الفضائيات العربية والذين يستهدفونها إما لجهل أو لغرض في نفس يعقوب، أن مراسلي هذه الفضائيات كانوا وما زالوا يتحركون في حقول من الألغام وأن أي زلة قدم ستؤدي حتماً إلى كارثة مرعبة.

ثم انه يجب أن يُعرف، والكلام هنا موجه لغير العارفين وليس إلى المتحاملين والمزايدين، ان الفضائية ليست حزباً عقائدياً وانها ليست مثابة قومية أو دينية، انها أداة إعلامية وأن وسيلة الإعلام الناجحة هي الصادقة في نقل ما تراه وما تسمعه وهي الأمينة على إيصال الحقيقة وليس أقل أو أكثر من الحقيقة إلى المشاهدين.

عندما يصدر صدام حسين شريطاً مسجلاً، فإن مهمة الفضائية كوسيلة إعلامية ان تحصل على هذا الشريط وأن تسارع إلى بثه فهذه هي مهمتها وهذا هو واجبها تجاه مشاهديها وعليها أن لا تتوانى عن القيام بهذا الواجب، حتى وإن غضب الأميركيون وتذمر مجلس الحكم الانتقالي وتململت بعض الدول المجاورة.

وعندما يعقد مجلس الحكم الانتقالي مؤتمراً صحافياًً أو تصدر الإدارة المدنية الأميركية بياناً أو يصدر الجيش الأميركي بلاغاً، فإنه على الفضائية، حتى تكون صادقة وناجحة وغير مقصرة بواجبها، أن تنقل كل هذا لمشاهديها وحتى لو غضب اتباع صدام حسين في الداخل والخارج وحتى لو تململت بعض الدول المجاورة.

ان مهمة الفضائية المستقلة، غير التابعة لدولة لها مواقف وسياسات ولا إلى حزب أو منظمة أو تنظيم أو جهة منحازة ومتحيزة، ليست إرضاء هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المؤتلفة والمختلفة والمتعارضة والمتصارعة في العراق، بل نقل الحقيقة إلى مشاهديها وايضا حتى وإن أغضبت هذه الحقيقة بعض المشاهدين ولم تلق استحسانهم.

هناك مراسلون أبدوا انحيازاً لهذا الطرف او ذاك من غير مبرر وربما هناك فضائيات حاولت ركوب أمواج المزايدات والمناقصات في مرحلة من مراحل تطورات القضية العراقية، لكن بصورة عامة يمكن القول وبكل راحة ضمير ان هناك فضائيات تقبض على الحقيقة كما تقبض على الجمر وبقيت تحاول أن تكون موضوعية وغير منحازة إلا لمهنتها رغم كل تعقيدات الوضع العراقي، ورغم ان صدور مراسليها كانت ولا تزال مكشوفة لرصاص مختلف التيارات والقوى وعصابات الإجرام و«مافيات» الحروب والترهلات الأمنية.

لا يمكن لأي فضائية مستقلة في وضع مثل وضع العراق، إلا أن تُغضب كل هذه الأطراف المختلفة والمتصارعة، والحقيقة أن غضب كل هذه الأطراف المختلفة والمؤتلفة على فضائية معينة يعني أن هذه الفضائية تقوم بواجبها خير قيام ويعني أنها وسيلة إعلامية ناجحة ومتفوقة، فإرضاء كل هذه الأطراف والقوى العراقية وكل الدائرين في فلكها غاية لا يمكن إدراكها ولا الوصول إليها.