ما علاقة كتابة التاريخ بتبويس اللحى؟

TT

لم يكن تركي الحمد مجافياً للحقيقة أو مجانبها، حين وصف بعض مظاهر ثقافة الرفض العربية في مواجهة ما يعتور الأمة من شدائد وموبقات وتحديات مختلفة اقتصادية وسياسية وثقافية داخلية وخارجية، بأنها مظاهر وظواهر صوتية! فنحن حقاً نعيش عصر المظاهر الصوتية. ولا شيء يعلو فوق (صوت) المعركة.

أقول هذا الكلام وأنا أقرأ في عدد واحد من جريدة «الشرق الأوسط» أكثر من رد لكتاب مصريين، ومقالة طويلة عريضة للكاتب الكويتي نجم عبد الكريم، وهي تنهال كالسهام والرماح والسيوف ومشاعل النار لحظة اشتداد المعارك، وعلى وقع الجراح والدم وحروب البسوس ـ على رأس الكاتب الكويتي، المطلوب رقم واحد صلاح الساير!

ظننت في البداية، أن الساير وجد مقبوضاً متلبساً بقضية جرمية أو تنكر لدينه وقوميته العربية، أو خالف أعراف شعبه وتقاليده وكرامة أمته، أو كفر بعقيدته. لم يكن الساير يستأهل الهجوم «الفرعوني» الذي شن واتهم فيه بالنحت في الماء، والابتعاد عن الحقيقة وتزييف التاريخ، وتتم معاتبته وتذكيره على الطريقة الديوانية أو (الدواوين) بأن ناصر منح في الستينات مقاعد جامعية للكويتيين، ووقف ضد عبد الكريم قاسم حين طالب بضم الكويت عام 1959.

أود أن أشير هنا إلى أن صلاح الساير لم يكن الكاتب العربي الأول، أو أول الكتاب العرب الذين فنّدوا بواقعية وحرص قومي حقيقي تاريخ الرجل وتجربته في الحكم والإدارة، وسياسة مصر بل إن أول من بدأ بمهاجمة التجربة الناصرية هم الكتاب المصريون أنفسهم، وما زالت معارك المصريين كتاباً ومثقفين وأحزاباً سياسية، حول ناصر والناصرية، لم تحسم لحين كتابة هذه السطور، وأعتقد أنها لن تحسم إلى قيام يوم الدين!

لكن نقد التجربة الناصرية في مصر كان مبكراً جداً، وفي مقدمة الكتاب الذين مارسوا بجرأة غير عادية، نقد الناصرية، الأخوان أمين، ثم سار خلفهم طابور كبير وطويل من الأحزاب السياسية المصرية. ولعل حزب العمل وجريدته «الشعب» كان وما زال يعتقد أن معركته مع نهج عبد الناصر ربما تفوق كثيراً معارك المصريين ضد التحديات التي يواجهونها في حياتهم الاقتصادية والسياسية والجماعات المتطرفة والبطالة والتضخم والفقر والعلم الإسرائيلي، الذي يعتبره الكثير من المصريين واحداً من نتائج الخسارات السياسية التي أنتجتها التجربة الناصرية في ما بعد، بل إنهم يرجعون كل أسباب البلاء والمحن القومية التي تمر بها الأمة إلى أخطاء ناصر وتركته الثقيلة على المصريين والعرب. أقول لماذا لا يهاجم نجم عبد الكريم والعديد من الناصريين أفراداً وجماعات، الكتابات المصرية ذاتها؟ ووحده العربي (الساير) من يُهاجم ويُتهم بمجانبة الحقيقة والتطفل على كتابة التاريخ وتزييف الحقائق. ولماذا لا نقبل نقد تجاربنا الفكرية والسياسية وأنظمة حكمنا العربية التي مرت من أمام منصة عواطفنا ووجداننا وجرحت تراب سيادتنا بالعمق في اكثر معارك العرب حضورا في تاريخهم ووجدانهم، بل نُهاجم ونُتهم بشتى الاتهامات إذا ما تجرأ كاتب من الكتاب بنقد الواقع؟ لماذا لا نملك جرأة عبد الناصر ذاته، حين أقدم على قرار الاستقالة عشية هزيمة القوات المصرية وهزيمته السياسية الشخصية عام 1967. هل نحن أخلص من عبد الناصر لذاته وشخصه وحكمه؟ أعتقد أن الكثير من أخطاء التجربة الناصرية وخطاياها الداخلية والخارجية كانت بفعل سياسات التعمية التي كانت تمارسها نخبة الحكم من مثقفين وصحف ووزراء وقادة أحزاب محيطة. لقد خسرت مصر في زمن ناصر، الذي كان يمثل هرم المشروع القومي وأحد بناته الأساسيين ورمزا من رموزه التقليديين، ما لم تخسره في أي وقت آخر، ولم يربح أياً من الحروب التي اندلعت في زمانه بل أضاف عبئاً سيادياً وسياسياً عليها بخسارة سيناء وبقية الأراضي العربية عام 1967. بل إن الرجل وبحنكة أجهزة دعايته واستخباراته ودعاية الأحزاب الناصرية المنتشرة في طول البلاد العربية وعرضها وأبواقها المزعجة (وهي مصدر قوة ناصر والناصرية في حينها)، حولت تلك (الهزائم) إلى انتصارات في أذهان العرب، وتلك خطيئة يتحمل وزرها الرجل ذاته حتى أن تلك الأجهزة وبدافع التغني ببطولات البكباشي (هزائمه)، أجبرت دعايتها شعراء كباراً على المثول أمام منصة (ادعاءات الناصرية)، واقسارها تحت وقع التهديد والتكفير إلى الترويح عن المشروع المهزوم والقائد المنهزم، وإيهام الأمة أن الذي حصل في عام 1967 لم يكن هزيمة عسكرية وسياسية وفكرية ماحقة بل (استراحة محارب)!

ألم يكتب نزار قباني قصيدته الشهيرة (أوراق على دفتر النكسة) التي تولى فيها رد الاعتبار لناصر والناصرية أمام جمهور كان يغرق بأوحال الهزيمة إلى أذنيه من البحر إلى النهر، وأعقبها بعد وفاته كي لا تموت الناصرية بوفاة ناصر بـ(قتلناك يا آخر الأنبياء)؟!

لقد سقط الكثير من الشعراء والأدباء والمثقفين، الذين كانوا في نظر أوساط واسعة في الأمة شخصيات تنويرية وقادة وعي قومي، أمام الأفعال المغناطيسية للأجهزة الناصرية الدعائية، وما يزال الكثيرون لليوم لم يستيقظوا بعد من فعل التنويم المغناطيسي للتيارات والبهرجة الناصرية وآثامها بحق الأمة وكرامتها القومية. لهذا أضم صوتي لصوت الدكتورة صافيناز كاظم، حين أكدت جدلية التشابه في الميزات والشروط الشخصية والأفعال المغناطيسية المشتركة التي جمعت ناصر وصدام حسين، وأعتقد كما تعتقد هي، ومعنا صلاح الساير، أن البلاءات التي تسقط على رؤوس الناس والأمم والشعوب، ناتجة عن (حمم) أخطاء قادتها ومساوئهم وخطاياهم التي لا تغتفر، وهي خطايا ومساوئ تتحكم فيها الأمزجة الشخصية والعصبيات القبلية والجهل السياسي وركوب الرأس وغياب التقدير العالي واستخدام اللغة العالية للتعبير عن جوهر المصالح الوطنية والقومية، والعقليات الخشبية (التي تلعب) لوحدها في الساحات المفتوحة على المصائر والسيادات وأرواح الناس، وكأن أرواح الناس ومصائر الشعوب قطع شطرنج يلهو بها الساسة في حدائق قصورهم الرئاسية!

واسأل: هل أن ناصر كان عروبياً حقاً في تحذيره لعبد الكريم قاسم حين كان الأخير يطالب بضم الكويت، أم أنه كان يكره قاسم بدافع الغيرية وشعوره الشخصي بالتنافس على عرش المشروع القومي القادم من أعالي الطورانية التركية، وبلهجة لا يكاد يفهمها ابن الجنوب العراقي، والساكن في أعالي الدلتا، وهي تخرج بكلفة واضحة على لسان ساطع الحصري؟ إذ كان قاسم لا يختلف في شروطه الشخصية ومصداقيته العربية القومية واسناده ودعمه لحركات التحرر العربية عن أي زعيم قومي في تلك الفترة. ألم يدعم الحركة الاستقلالية في الجزائر. لم يكن عبد الناصر حريصا على الكويت، كما تزعم الثقافة الناصرية الحديثة وقادتها المحليون في مصر وصحفها وهمرجتها القديمة، بل وجد ناصر في مطالبة قاسم بالكويت المبرر الأقوى لقيادة أشرس حملة ضد ثورة 1958 ـ مع تحفظي الشديد على اللهجة السياسية للثورة وقيادتها إزاء الخلاف الكويتي العراقي على الحدود الدولية بينهما ـ فما كان ينبغي لناصر أن يدعم (شلة القوميين المذبوحين على طريقته) من أصدقائه، وفي مقدمتهم عبد السلام عارف، من الذين يكرهون قاسم، وأن يكلف نفسه عناء المجيء قرب الحدود العراقية ليراقب بقلق بالغ ساعات انقلاب عبد السلام وقتله لقاسم، فيما بعد، بمبنى الإذاعة والتلفزيون العراقي عام 1963، في أشرس مذبحة جرت بعد مذبحة قصر الرحاب وبفتوى ناصر.

وأسأل: هل أن ما قام به ناصر من تآمر واضح على ثورة تموز (يوليو) في العراق يؤهله لأن يكون حامي العرب ومشروع العروبة ونهج الاعتدال والوحدة؟ كيف يكون ممزق وحدة العراق وذابح ثورة أصدقائه الضباط الأحرار، وداعم مجموعة من الانقلابيين الطائفيين ضد رجل وطني وقومي شريف ـ لا يشك بولائه لعروبته، رغم أخطائه وقراراته المتسرعة ـ هو ذاته رجل القومية والوحدة العربية؟. إن من يتآمر على وحدة قطر عربي هام كالعراق لا يمكن أن يكون حريصاً على سيادة الكويت وحرمة ترابها الوطني، ولا يمكن أن يوصف بالقائد الوحدوي، كما إن كل المعارك التي خاضها عبد الناصر في اليمن والعراق وأقطار أخرى كانت معارك ومواجهات خيضت بدوافع مزاجية وعصبوية، حيث كان يرى نفسه وانقلابه أكبر من الخارطة والناس والتاريخ، وأكبر دليل على فشل كل التجارب الناصرية في الوطن العربي وموتها السريري في مهدها المصري، أنها عاشت على أوهام زعامة التاريخ وقيادة الأمة، فأسقطها الوهم في سراب النهوض المستحيل.

* كاتب وإعلامي عراقي