المعارضة الداخلية في إسرائيل بين التهوين والتهويل

TT

بعض الأحداث التي وقعت أخيراً في اسرائيل تثير الاهتمام، لأنها تظهر تصاعداً في معارضة حكومة شارون التي تتشكل من الأحزاب الدينية، ضمن تحالف الليكود اليميني، والتي وصلت في تصرفاتها الى حد الاستهانة بكل الاتفاقيات الموقعة مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وتصعيد الاغتيال والاعتقال والتدمير الى حد غير مسبوق.

وتأتي في مقدمة هذه الأحداث الرسالة التي وقع عليها 27 طياراً اسرائيلياً أعلنوا رفضهم قصف المنازل الفلسطينية وتدميرها وقتل النساء والأطفال، لأنها تقوم على مبادئ غير قانونية وغير اخلاقية، وأشاروا الى ان هذا هو نتاج للاحتلال المتواصل الذي يمس استمراره أمن اسرائيل وحصانتها الأخلاقية. ثم تأتي الرسالة التي نشرها ابراهام بورج الرئيس السابق للكنيست من 1999 الى 2001، في الصحيفة الاسرائيلية الواسعة الانتشار «يديعوت احرانوت»، وقال فيها ان الصهيونية قد ماتت، وأن الذين ارتكبوا قتلها يتربعون على كراسي السلطة في اسرائيل. والزيارة التي قام بها رجل السلام «يوري افنيري» الى ياسر عرفات في مقره برام الله يوم 13 سبتمبر الماضي، وأعلن خلالها ان نشطاء السلام في اسرائيل سوف يشكلون دروعا بشرية من أجل حماية الرئيس الفلسطيني بأجسادهم في حال تعرضه لمحاولة اغتيال اسرائيلية. والمعارضة الواضحة التي شنها شيمعون بيريز ضد شارون لتقاعسه في تنفيذ خريطة الطريق واصراره على مواصلة بناء الجدار الحاجز، الذي يسلب الفلسطينيين بعض أرضهم ويؤكد وصم اسرائيل بالتعصب والعنصرية.

هذه الأحداث التي استجدت على الحياة السياسية داخل اسرائيل تأتي الى جانب مواقف أخرى معروفة ومعلنة لقوى وتنظيمات السلام واليسار داخل اسرائيل، والتي تعارض وتقاوم اسلوب حكومة شارون وتصدر ضده بيانات شديدة اللهجة مثل هذا البيان، الذي اصدرته لجنة الحوار الاسرائيلي ـ الفلسطيني، وأدانت فيه محاولات الإرهابي شارون اليائسة لتركيع الشعب الفلسطيني وعلى رأسه زعيمه أبو عمار، (رمز الكرامة والصمود) حسب ما جاء في البيان، هذه الأحداث والمواقف يجب أن تدرس بعناية، وان تدخل ضمن حسابات الحركة السياسية التي تعيش فيها المنطقة بعد احتلال العراق، وتصاعد جرائم حكومة شارون، وعجز القوى الدولية والاقليمية عن ارغام الادارة الاميركية على اتخاذ الموقف الصحيح المناصر للسلام.

كل صوت يرتفع في اسرائيل مديناً سياسة شارون، ومطالباً بتنفيذ خريطة الطريق من دون مماطلة، يجب ان يقدر تقديراً صحيحاً، ولا يجوز أن يأخذه أحد بنوع من التهوين الذي يؤدي الى حسابات خاطئة تفقد الحق العربي أنصاراً داخل المجتمع الاسرائيلي.

وقد دهشت عندما قرأت لأحد الكتاب ان العودة الى المراهنة على الداخل الاسرائيلي من خلال الاحتفاء بكتابات ابراهام يورج، هي هرولة ومحاولة لاحياء مشروع (كوبنهاجن)، من دون وزن صحيح للأمور أو توضيح سليم. لنفرق بين ما يحدث الآن وبين ما حدث في محاولة (كوبنهاجن) التي قوبلت برفض شديد من جانب القوى والتنظيمات الوطنية في الدول العربية، ومن جانب قوى السلام داخل اسرائيل، لما أحاط بها من شبهات واستخدام لعناصر من الموساد.

ويعمد بعض الكتاب أيضاً الى التقليل من أهمية رصد هذه الظاهرة الجديدة وتشجيعها بدعوى أنها لا تشكل ضغطاً يذكر على القرار السياسي الاسرائيلي، وأن أصوات هؤلاء لا تختلف كثيراً عن أصوات الحركات الداعية الى السلام في اسرائيل، لأنها تحدث من الضجيج والرنين أكثر مما تغيره في خرائط الواقع، ثم ان هذه الأصوات كلها ـ حسب ما قال أحد الكتاب ـ تعبر عن خلافات وصراعات داخل المجتمع الاسرائيلي لسنا طرفاً فيها، وهو منطق غريب يدعو الى التغاضي عما يدور داخل المجتمع الاسرائيلي من آراء متصارعة وكأنه أمر لا يهمنا.

مثل هذه الآراء التي تدعو الى التهوين من هذه الخلافات، تفقد الحق العربي فرصة التعامل مع القوى التي تعارض سياسة ارييل شارون، بينما الواجب ألا نتغاضى عن هذه الظاهرة التي تجمع بين تنظيمات وشخصيات لها وزن داخل المجتمع الاسرائيلي، ولا يعني الاهتمام والتعامل معها غلق ملف القضية والانصراف الى هجاء المناضلين كما يدعي بعض الكتاب الذين تجمدت نظرتهم عن رؤية الحقائق والتعامل معها.

أيمكن أن نغلق الأذن ونلجأ الى الصمت ونحن نقرأ كلمات ابراهام بورج التي يقول فيها (اسألوا أطفالكم من منهم مطمئن الى انه بعد ربع قرن من الزمان سوف يكون مقيماً في اسرائيل؟ ان أكثر الاجابات بعد نظر قد تصيبكم بصدمة، ذلك ان العد التنازلي للمجتمع الاسرائيلي قد بدأ)؟

وهل نتغاضى عن كلمات رئيس سابق للكنيست وهو يقول (بين نهر الاردن والبحر الابيض المتوسط انتهى الى غير رجعة ان تكون الاغلبية العددية لليهود. لم يعد ممكناً الاحتفاظ بكل شيء بلا مقابل وبدون دفع ثمن. ولم يعد بمقدورنا إدعاء أننا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، ذلك ان هذا الإدعاء غير صحيح، وما دام لن تتحقق للعرب المساواة التامة معنا لن تكون هناك ديمقراطية)، هل نتغاضى عن مثل هذه الآراء بدعوى أننا لسنا طرفاً في الصراعات التي تدور داخل اسرائيل كما روج بعض الكتاب.

ومع ذلك فاذا كنا نعارض التهوين من الاحداث الجارية داخل المجتمع الاسرائيلي، فإننا لا يجوز أيضاً أن نعمل على التهويل بها، لأنها لم تزل تحتاج الى تعاون من كل القوى الخيرة الحريصة على الأمن والاستقرار والسلام داخل اسرائيل في تشكيل قوة ضغط وأغلبية برلمانية تطيح بحكومة شارون.