الجمهور عايز كده

TT

في مرحلة ليست بالبعيدة، سادت السينما المصرية حالة من التراجع الحاد، وسيطر على سوقها ما اصطلح على تسميته بأفلام المقاولات. هذه النوعية من الأفلام والأعمال الفنية بشكل عام كان المبرر لها من وجهة نظر أصحابها أحد أمرين، اما «الجمهور عايز كده»، وبالتالي فإن دور المبدع أو الفنان ان جاز اطلاق هذه التسمية عليه هو البحث عن رغبات الجمهور ونزواته ومحاولة اشباعها، والمبرر الآخر بدا مغايراً ومعاكساً للتبرير الأول، وهو سيطرة معايير السوق الخليجي على المنتج الفني، وبالتالي تقديم أعمال يحيط بها من المحاذير والمحددات أكثر من الحاجة المتاحة للابداع، وبالتالي تكون النتيجة انتاجاً لا يحمل من الابداع قيمته. هذه الحالة من التراجع لم تبدأ في التحسن النسبي إلا عندما تخلص المبدعون، أو نفر قليل منهم، من هذين المبررين، وهذا هو الضمان الوحيد لأي نهضة حقيقية، عدم التمسح في رغبات ونزوات الجمهور، واقامة مساحة أوسع للابداع والتفكير في حرية حقيقية.

بتطبيق النموذج الفني السابق على الحالة الاعلامية العربية التي عشناها خلال الأعوام الأخيرة نكتشف أن هناك حالة من سيطرة مفهوم «الجمهور عايز كده» على معظم وسائل الاعلام العربية ـ خاصة التلفزيونية منها ـ وينسحب هذا ليس فقط على محطات التلفزيون والقائمين عليها بل يمتد إلى نجوم المرحلة التلفزيونيين من السياسيين والمحللين والمعلقين، وأصبح كل من هؤلاء النجوم الجدد قادراً على ضبط موجته وفقاً لطبيعة الجمهور المستهدف، فأصبحت لغة خطابه في «الجزيرة» مغايرة نسبياً لتوجهاته في «العربية»، ولن يمانع في أن يتبدل أو يتغير قليلاً ليتناسب مع جمهور الفضائية المصرية أو السودانية أو الموريتانية، وبالتأكيد فإن اللغة والتوجه سوف يكونان مختلفان تماماً إذا ما كان الحوار مع «سكاي نيوز» أو «سي إن إن». وفي كل مرة نجد هذا النجم يبحث عما يمكن أن يدغدغ الجمهور ويثير حماسه، يزايد على المواقف، ويعلو الصوت ويتحشرج أحياناً، وعينه على المتلقي، فالنجم التلفزيوني يعلم أين مناطق الاشتعال والحماسة لدى المتلقي، فيتخلى عن رزانته وحياده وعلمه وقدرته على التحليل ليضغط بكل ما أوتي من قوة صوت ظناً منه أنه يكسب بذلك تعاطف المتلقي حتى لو تناقض ذلك مع حقائق الأمور. وتكون النتيجة المزيد من الغرق في أوهام قوة، أو انتقام أو تلبس حالة غير حقيقية لا تكون نتيجتها إلا غيبوبة سوف يدفع ثمنها الوطن كله. وعندما يأتي الوقت الذي يفيق فيه المتلقون على الحقيقة المرة، وحالة الوهم التي عاشوها، ساعتها لن يفيد كثيراً ذلك الهتاف الشهير الذي تضج به جنبات العديد من دور السينما عندما يكتشف المتفرجون أنهم قد تعرضوا لخدعة كبيرة فتهتز قاعة العرض بأصوات غاضبة «سينما أونطة هاتوا فلوسنا».

[email protected]