حملة السيناتور شومر.. نذير بـ«المقاتلة في الدين»

TT

جدد رئيس أساقفة الكنيسة البريطانية (الانجليكانية): الدكتور روان وليامز: نقده ونقضه لمسوغات الحرب الأميركية البريطانية الأخيرة. وقال - في محاضرة ألقاها في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن ـ في الأسبوع الماضي: «إن بريطانيا والولايات المتحدة مخطئتان في استخدام «الأخلاق» شرعية للحرب. فتبرير الغزو واستناده إلى «عقيدة الحرب العادلة» والتي ترجع إلى عهد القديسين أوغسطين وتوما الاكويني.. هذا الاستناد باطل بالنسبة للحرب الأميركية البريطانية التي نشبت في هذا العام، ولا يمكن أن نقبل أن تكون الحكومة «حكماً» في قضية هي طرف فيها. فالتقاليد المسيحية لا يمكن أن تستوعب حجج المنادين باتخاذ إجراءات وقائية. ولقد فقدت الولايات المتحدة: القدرة على نقد الذات، وأصبحت مكبلة بأخلاقية ذات مرجعية ذاتية، وانه لمن الضروري في نظرية الحرب العادلة: الا يكون مرتكبو أعمال العنف مجرد أفراد».

هذا كلام صريح ودقيق في «تفريغ» الغزو من «المضامين الدينية».. وتعلو قيمة هذا الكلام حين يصدر عن «مرجعية» بروتستنتية يدين بها غالب الشعبين: البريطاني والأميركي.

وبراءة المسيحية والمسيحيين من تبعة تفريغ الحرب بالأخلاقية المسيحية، لم ينطق بها الدكتور وليامز وحده، بل رفع صوته بها رؤساء الكنائس الكبرى في الشرق والغرب: بابا الفاتيكان.. ورؤساء الكنائس الأميركية المهمة.. وبطريرك روسيا.. والبابا شنودة.. والبطريرك صفير، يضم إلى ذلك: أن أكثر من 30 مليون مسيحي في أوروبا وأميركا واستراليا وغيرها، خرجوا يتظاهرون ضد هذه الحرب. أي أن القيادة الدينية المسيحية والقاعدة الشعبية المسيحية: كلتاهما أبت الحرب واستهجنتها وقاومتها بالبيان المنطوق والمكتوب وبالموكب والمظاهرة.

أعظم من ذلك وأقوى وأوضح: أن دين سيدنا المسيح عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم ـ يأبى مثل هذه الحروب ويدينها أيما دينونة:

اولاً: لأن المسيحية (دين سلام) وحاملها، المبشر بها: سلام كله: من البدء إلى المنتهى «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».. وعصي على العقل والفهم والضمير: أن يكون المبشر بالسلام، وان يكون دينه الذي انزل عليه: سند حرب بينها وبين المسيح ابن مريم: أمد بعيد: جد بعيد، يصل حد التناقض الصارخ التام.

ثانياً: لأن السيد المسيح، رفع صوته بالاحتجاج التقي الصدوق ضد الذين يستغلون دينه من اجل أغراضهم الدنيوية الدون فقال: «تبا لكم أيها الكتبة والفريسون، أيها المراءون، يا من تدفعون العشور بالنعناع والشبت والكمون، ثم تتركون ما هو أعظم من ذلك من الشريعة والأحكام والرحمة والإيمان. وكان الأجدر بكم أن تفعلوا ما تركتموه ولا تأتوا ما فعلتموه، أيها القادة العميان: يا من ترتعدون أمام البعوضة، وتبتلعون الجمل، ويل لكم أيها الكتبة والفريسون أيها المراءون. فانتم تحرصون على أن يكون الكأس نظيفاً في خارجه، ولا تهتمون بما في داخله من فسق ودعارة.. أيها الفريسون نظفوا ما بداخل الكأس فيكون نقياً نظيفاً كخارجه» انجيل متى.. الإصحاح 23 الفقرة 23 ـ 26.

ولئن وجه هذا النقد الصارم، أو الموعظة البليغة الجليلة إلى طوائف معروفة من اليهود فان المؤمنين بالمسيح ينبغي أن يكونوا احرص الناس على الإصغاء لنبيهم العظيم حتى يتفادوا ـ بوعي ومسؤولية ـ «إثم استغلال الدين وتوظيفه في تحقيق أغراض دنيوية: بالحرب أو بغير الحرب.

لماذا تجديد الحديث عن هذه القضية؟

إن ما قاله الدكتور روان وليامز آنفاً كان «مدخلا»: زمنياً وموضوعياً.

أما الداعي الرئيس إلى تجديد طرح هذه القضية فهو: أن دوائر أميركية تخطط لشن حملة جديدة على الإسلام، وان السيناتور الديمقراطي تشارلز شومر يزمع تنظيم مؤتمر صحفي بهدف بدء هذه الحملة، وان من تدابير المخطط: اتخاذ دولة معنية هي السعودية كواجهة للهجوم على الإسلام نفسه، وإلا فما معنى: أن يكون قوام الحملة هو الهجوم المنهجي على «دين الدولة»؟

إن دين الدولة هو الإسلام في معظم دول المسلمين:

1 ـ الإسلام الذي مصدره كتاب الله «إنا أنزلنا الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين. ألا لله الدين الخالص».

2 ـ الإسلام الذي مصدره سنة النبي: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

3 ـ الإسلام الذي ارتضاه الله للمسلمين دينا: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

4 ـ الإسلام الذي أمر الرسول بان يسارع إليه ويكونه ويتمثله «قل إني أمرت أن أكون أول من اسلم».

5 ـ الإسلام الذي نسب الله المسلمين إليه، وسماهم به: «هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس».

7 ـ الإسلام الذي أمر الله المسلمين بالثبات عليه أبداً: حتى الممات «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن وإلاّ وأنتم مسلمون».

هذا هو الإسلام.

والهجوم عليه: إعلان «حرب دينية حقيقية» لا مجازية: على الإسلام نفسه، وعلى أتباعه جميعاً، أي على كل من شهد: ألا اله إلا الله، وان محمدا رسول الله، فوق كوكبنا هذا.. وهي حرب يبوء بإثمها وتبعاتها وآثارها المدمرة: مشعلوها الذين لا يستطيعون قط أن يكونوا بعيدين عن لظاها، ولا يستطيعون إطفاءها إذا اشتعلت.

إن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال في عافية، ولا يزال العقلاء يجدون لها المعاذير والمخارج..لا تزال كذلك، ما دامت بعيدة ونائية بنفسها عن سقطة(مقاتلة المسلمين في الدين).. فإن تورطت ـ بهذه الصورة أو تلك ـ في خطيئة مقاتلة المسلمين في الدين، فان كل المعاذير لها تنتفي وتسقط، ذلك انه ليس هناك حجة أقوى ـ في هذه الحال:

أ ـ من حجة آية: «ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا».

ب ـ ومن حجة آية: «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون».

وحين تسقط المعاذير كافة وتعمل هذه الآيات عملها ـ كرد فعل ـ فإننا نؤكد بكل نوع من أدوات التوكيد: أن العالم سيتلظى بنيران حروب دينية دونها - في الحجم والضراوة والتعاسة والخسائر ـ: الحروب الصليبية، والحروب الدينية في أوروبا ذاتها.

وهذا تحليل أو تقدير، يتعزز بـ«واقع» من السفه والإجرام: تجاهله أو القفز عليه: واقع أن الأمة الإسلامية «معبأة» ـ إلى الذروة ـ بعوامل التذمر والسخط والغليان، وهي عوامل لم يتسبب فيها إعلام رسمي في العالم الإسلامي، فمعظم هذا الإعلام هاجع خانع لا يرد يد لامس!! بل حصلت التعبئة وارتفعت معدلاتها بفعل الضغط الخارجي الذي لا يطاق على أعصابها: الضغط المادي، والضغط المعنوي، وهو ضغط ينتظر «المفجر» لكي يقع الانفجار الكوني الكبير.. وعندما يقود النائب الأميركي تشارلز شومر حملة سياسية فكرية إعلامية ضد الإسلام، فانه: يشغل المفجر: عمداً أو عبثاً. والنتيجة هي: شعور المسلمين الراسخ بان المعركة انتقلت إلى مرحلة «المقاتلة في الدين»، وهو شعور يترتب عليه ما يترتب عليه من ردود فعل وآثار. صحيح أن المسلمين لا يملكون أسلحة نووية ولا منظومة ضخمة من حاملات الطائرات، ولكن من سوء التقدير بل من الجنون أن يتصور احد: أن اشتعال العالم بالحروب الدينية متوقف على هذه الأسلحة، فلقد نشأت من قبل حروب دينية قبيحة ومهلكة، ولم يكن هذا النوع من السلاح موجوداً.

لا نبرح نقول: ليس هناك مسوغ للحروب الدينية، وذلك لأسباب عديدة تتطلب مقالاً مستقلاً. بيد أن الأشقياء من البشر يستميتون في مباشرة هذه الحرب، ليس حباً في السيد المسيح عليه السلام، ولا التزاماً بتعاليم إنجيله الحق. فهم ابعد الناس عن المسيح وكتابه.. وإنما ينبعثون إلى تأجيج الصراع الديني بدوافع شخصية أو حزبية: مجردة من صفاء الدين، ونبل الخلق.

قبح الله السياسة، والديقراطية والانتخابات، إذا اتخذت وسيلة أو أداة لإثارة الحروب الدينية بين الأمم، من اجل حفنة أصوات، أو في سبيل هذا الكرسي أو ذاك.

لماذا يكون الهجوم على الإسلام «ورقة انتخابية»؟.. لماذا يكون دين نحو ستين دولة، ونحو مليار وثلاثمائة مليون من البشر، مجرد سهم في «سوق المضاربات السياسية»، ومجرد بند في التحالفات الآثمة بين اللوبي الصهيوني وبين بعض السياسيين الآخرين الذين أفلست برامجهم من كل شيء، ولم يبق لهم إلا بند الهجوم على الإسلام.

ونستدير 180 درجة لنقول: إن شرعية الأنظمة في العالم الإسلامي ستتقوض ـ بيقين ـ إذا تساهلت أو تهاونت في قضية الهجوم على الإسلام، إذ هي قضية ليست موضع خلاف، ولا تحتمل التجاهل ولا المداهنة.. وكثير على حكام المسلمين: أن نطالبهم بما لا يطيقون. حسبهم أن يفعلوا ما يطيقون: أن يفتحوا أفواههم الدبلوماسية والسياسية والإعلامية بما ينصر الإسلام، ويردع ـ سلمياً ـ شانئيه الذين يريدون أن يصلوا إلى أهدافهم السياسية على أنقاضه.

افعلوا هذا... وإلا فلماذا انتم باقون!!