عملاقان من أيام خلت

TT

كان الشيخ محمد رضا الشبيبي رحمه الله، من الشخصيات العراقية اللامعة في ميادين الشعر والادب بالاضافة الى مكانته السياسية، حيث لعب دورا كبيرا في الحركة الوطنية ثم دخل مجلس الامة كنائب ثم كعضو في مجلس الاعيان واخيرا كوزير في الدولة. ولكنه ظل من الساسة المعارضين لكثير من الاجراءات والانظمة التي تبنتها السلطة، لا سيما الخدمة العسكرية، او فيما عرف بمشروع التجنيد الالزامي، ولما كانت الحياة السياسية في العهد الملكي تتميز بالمشاورة والمناقشة الحرة، فقد استدعاه الملك فيصل الاول رحمه الله ليشاوره في الموضوع ويستأنس برأيه فقال له ان الجريرة كانت جريرة الحكم العثماني الذي اساء استعمال النظام الى الحد الذي كرّه العراقيين له، ومن المحتمل جدا الا يستجيبوا له بالشكل المطلوب.

زاره بعد ذلك في اليوم التالي ياسين الهاشمي، رئيس الوزراء وسأله ثانية في الموضوع فأجابه بأن على البلاد مهمات اجدر من الخدمة العسكرية، كالتعليم والتصنيع والزراعة ورفع مستوى الشعب. رد عليه رئيس الوزراء فقال له ان الدوائر العسكرية ممتعضة من موقفه وتقول عنه بأنه عدو للتجنيد الاجباري. اجابه الشيخ الشبيبي قائلا: انني لا يهمني ما يقال، ولكن ما رأيك في الجواب؟ وعندئذ هز ياسين الهاشمي رأسه مطرقا وردد كلمات الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه فقال «لا رأي لمن لا يطاع».

استوزر الشيخ محمد رضا الشبيبي اربع مرات تحت رئاسته معظم الشخصيات المهمة في تاريخ العراق الحديث. ولكنه ما كان يتسلم منصبه كوزير حتى يصطدم مع زملائه ويبادر الى تقديم استقالته، ولهذا ربما نجد انه لم يدخل اي وزارة سعيدية، رغم كثرة ما تولى نوري السعيد الحكم في العراق. ويظهر ان نوري السعيد لم يكن يجرؤ على دعوته للمشاركة في الحكم معه. فقد كان بين الاثنين ما صنع الحداد. او فلنقل بعرف المثل البغدادي كانا مثل الحية والبطنج. يروي الكثيرون ممن حضروا جلسات مجلس الامة شتى الطرائف والحكايات عن المناوشات والمصادمات التي جرت بين الاثنين في قاعة المجلس واروقته.

ولكن نوري السعيد كان رغم ذلك يكن احتراما واجلالا كبيرين لرجل الفكر والادب. هكذا كانت الاحوال دائما في عهود ايام الخير. يروي كل من خليل كنه وفؤاد عارف ان نوري السعيد ما كان يلتقي برضا الشبيبي في اي مكان حتى يبادر الى تقبيله من كتفيه، على عادة العرب والاكراد في التعبير عن عظيم اجلالهم لأهل العلم.

حدث ان التقى الرجلان ذات يوم في ديوان من دواوين الدولة وكان نوري السعيد في طريقه للخروج ومحمد رضا الشبيبي في طريقه لدخول المؤسسة في مهمة من المهمات. كانت هناك مرآة كبيرة وراءهما على الجدار عندما التقيا، بادر ابو صباح فورا الى تقبيل الشيخ على نحو ما قلنا ثم راح يداعبه ويعاتبه على غيابه عنه. لم يره منذ مدة طويلة. ليش يا شيخنا تاركنا ومطلقنا هالشكل؟ فأجابه الشيخ ساخرا: «ما اريد اشوف وجوهكم، لا ارى القرد ولا القرد يراني!» فسارع ابو صباح الى جره من عبايته الى المرآة وقال له: «شوف! شوف شيخنا! من بنو بينا القرد؟ آني لو أنت؟».

وكانت تلك من الطرائف القليلة التي رويت عن نوري السعيد رحمه الله، فلم يكن من السياسيين الذين اشتهروا بالنكتة، ولكنها كانت ملحة من الملح الظريفة التي جعلتهما يضحكان معا.