«حرب الصحاف»

TT

تابعت حلقة واحدة فقط من «حرب الصحاف» على قناة «ابوظبي» ولم اسع الى متابعة الباقي. غير انني، في المقابل، تابعت معظم ما كتب وما اعلن من حروب على «حرب الصحاف». ولم تتوقف تلك الحروب عند وزير الاعلام العراقي السابق، بل شملت مقدم الحلقات الزميل جابر عبيد الذي اتهم بأنه لم يعرف كيف يستجوب نجم حرب بغداد التي لم تقع، وصاحب اختراع العلوج والجحوش وتلك الكلمة التي لا يمكن تكرارها طباعة او اذاعة حتى لو تقدمها اعتذار. ويعكس هذا الموقف السلبي من البرنامج طبيعة الناس وردودها التلقائية ولا جديد تحت الشمس كما قال نابليون الاول.

واما الزميل جابر عبيد فأعتقد انه ادى عملا استثنائيا كمقدم ومعد وباحث. وهو بالتأكيد من افضل وجوه الفضائيات العربية ومن اكثرها كفاءة ومن اوسعها جمهورا ومن افضلها احتراما. اما بين الخليجيين فهو بالتأكيد بين الاوائل والاكثر استحقاقا شكلا واسلوبا ومحتوى وادبا. فهو لا يخرج اطلاقا عن كونه مقدما لكي يحول نفسه الى طرف مع محدثه او الى معلم له.

هذا امر، الامر الثاني ان محمد سعيد الصحاف كان محمد سعيد الصحاف في الاستديو الجدي الاضواء وليس محمد سعيد الصحاف الواقف في ساحات بغداد، بالزي العسكري القتالي و«البيريه» الفرنسية التي لا ادري اي مصمم اضافها الى الثوب الزيتي اللون. فعندما ارتدى صدام حسين الكنزة العسكرية الجلدية الاكتاف، استعار كنزة الجيش البريطاني القتالية كما هي. والعقيد القذافي كان يعتمر قبعة سلاح الطيران البريطاني ويضع ربطة عنق. ثم تقرر ان تكون هناك بزات خاصة، تتناسب مع حروب العراق التي بسببها تحول اساتذة الادب الانكليزي والعرفاء السابقون الى جنرالات في مجلس الوزراء.

ارادت الناس من الصحاف، بصورة لا شعورية، ان يأتي الى الاستديو مرتديا الثياب العسكرية. وارادته عصبيا عابسا غاضبا عاقد الحاجبين على الجبين الاسمر (وليس اللجين، كما في اغنية فيروز) وارادت ان يقدم لها الصحاف الصورة التي كانت تدعي انها ترفضها وتستنكرها. ارادته مسليا يرمي مفرداته المضحكة في الهواء بين فقرة وفقرة. وارادته يبالغ ويكذب عليها ويخدعها ويحذرها كما كان يفعل تحت اضواء الكاميرات. ولذلك خاب املها عندما وجدته رجلا جديا محافظا يقيس كلماته ويدرسها خوف الخطأ. لقد دفعت الجماهير ثمن تذكرة المسرح لاعتقادها انها ذاهبة لحضور مسرحية هزلية مضحكة فاذا بها امام مشهد قاتم وحقائق قاتمة ورجل لا يريد ان ينكر ويستنكر اليوم اولئك الذين كان يدعو الى تبجيلهم بالامس.

المسألة هنا هي الجماهير وليست «حرب الصحاف»، هي الرغبات الدفينة عند الناس التي تحولها الى حقائق. الناس او الجماهير، لا يمكن ان يستهويها رجل هادئ فرغ قاموسه المثير. ولا هي تريد رجلا مهذبا يرفض التلفظ بتلك الكلمة التي لم يقلها على التلفزيون احد سواه. الجماهير دفعت ثمن البطاقة وتريد ان تستعيد ثمنها. والا فهي سترجم خشبة المسرح بالبيض والبطاطا الفاسدة. الجماهير، في كل مكان وفي كل العصور، تريد من يكذب عليها ويخاطب غرائزها. لذلك سارت بالملايين وراء هتلر. وكانت تقف مع الاسود ضد فريستها في حلبات روما. وهي تهتف لمعذبي الثيران في حلبات اسبانيا ويبلغ فرحها ذروته عندما ترى الثور يهوي فتقف احتراما وهي تصرخ وتصفق.

«حرب الصحاف» خدعة. كانت الناس تبحث عن «العلوج» ففاجأها منظر الحمائم.