المفكرون الأجانب والقضايا العربية

TT

عندما يستعصي عليّ الفهم احاول من حين الى آخر ان استشير كتابات الباحثين الاجانب لكي اعرف ماذا يجري حولنا بالضبط. فنظرة الآخر اليك، سواء أكان صديقا أم عدوا مفيدة، ويستحسن ان تطلع عليها لكي تعرف موقعك، واين انت، وماذا يراد بك، نقول ذلك وبخاصة اذا كان هذا الآخر ينتمي الى الدول الكبرى التي يقرر قادتها مصير العالم.

ومن بين هؤلاء الباحث الاميركي «جوزيف ناي» عميد كلية كندي للسياسة وفن الحكم في جامعة هارفارد. وقد كان في السابق احد مستشاري بيل كلينتون الكبار. وقد اصدر مؤخرا كتابا بعنوان: «تناقضات القوة العظمى الاميركية. لماذا لا تستطيع اميركا ان تحل مشاكل العالم بمفردها؟». وهو الذي اخترع مصطلح القوة الخشنة والقوة الناعمة. والأولى تقدم على استخدام العصا الغليظة، اي الضغوط الاقتصادية والحروب العسكرية من اجل ردع الآخرين أو اجبارهم على احترام رغبة اميركا.

وقد برهنت على فعاليتها في افغانستان والعراق مؤخرا. فالآخرون يهابونك ويحترمونك عندما تكون قويا. ولكنها برهنت على محدوديتها ايضا. وهنا يجيء دور السلطة الناعمة: أي سلطة الاقناع المنطقي والجاذبية الثقافية والحضارية لاميركا ومشكلة الرئيس جورج دبليو بوش هي انه اعتمد على السلطة الخشنة حتى الآن اكثر مما اعتمد على السلطة الناعمة.

وقد آن الاوان لكي يتخلى عن عجرفته وكبريائه من اجل ان يشرك الآخرين في تهدئة العراق أو حل مشكلته. وقد اخطأ عندما لم يتبع مثال ابيه الذي شكل تحالفا دوليا واسعا قبل اجلاء صدام حسين عن الكويت. ولكن يبدو ان الابن يعود الآن الى منهجية الاب ويحاول كسب ود فرنسا، والمانيا، وروسيا، واستصدار قرار جماعي من مجلس الامن بخصوص العراق. واذا ما حصل ذلك فإن مشروعية التدخل الاميركي ـ الانكليزي سوف تكبر وتترسخ اكثر فأكثر وسوف يصعب عندئذ على من يقومون بالتفجيرات والاغتيالات واعمال التخريب داخل بغداد او خارجها ان يستمروا طويلا.

ثم يخلص البروفيسور جوزيف ناي الى القول: الشيء التناقضي، في الموقف الاميركي حاليا، هو ان اكبر قوة عظمى في العالم منذ الامبراطورية الرومانية لا تستطيع ان تحقق كل اهدافها بقواها الخاصة فقط، لا ريب في ان القوة العسكرية الضاربة سوف تظل لها اهميتها الكبرى. ولكنها لا تستطيع ان تفعل كل شيء وحدها. وبالتالي فعلى اميركا ان تستخدم اساليب السلطة الناعمة ايضا من اجل اقناع الآخرين بصدق نواياها وعدالة قضيتها. وعليها ان تشرك الدول الأخرى ـ وبخاصة القوى الوسطى ـ في صنع القرار. وعندئذ يمكن ان تتوصل الى كل اهدافها بدون ان تفقد اولويتها على المسرح العالمي. وهذا اكبر درس يمكن ان نستخلصه من كارثة 11 سبتمبر.

اما الباحث الفرنسي «اوليفييه روا» فيتناول قضايانا ايضا في آخر دراساته وان من زوايا اخرى. والباحث المذكور، هو احد كبار المختصين الفرنسيين في شؤون الشرق الاوسط وافغانستان وآسيا الوسطى. وهو صاحب كتاب: «فشل الاصولية او الاسلام السياسي».

يرى هذا الباحث ان السياسة التقليدية لاميركا من روزفلت (1945) وحتى بوش الاب وكلينتون كانت تهدف الى فصل علاقتها مع العرب عن علاقتها مع اسرائيل. وكانت اميركا هي الدولة الوحيدة التي تستطيع ان تقيم علاقات قوية مع كلتا الجهتين في آن معا.

ولكن يبدو ان هذه السياسة اصبحت على المحك الآن، بل واصبحت مهددة تماما، وعندما احتل بوش الابن العراق كان يهدف الى علاج هذه المعضلة من الطرف الآخر: اي الطرف غير الفلسطيني وغير الاسرائيلي. كان يريد ان يخلق واقعا جديدا في المنطقة، واقعا يؤدي بشكل اتوماتيكي الى حل المشكلة المزمنة للصراع العربي ـ الاسرائيلي، بعد ان فشلت كل المناهج الأخرى في حله. وهو الآن يريد ان يضع سوريا والعراق المحتل والفلسطينيين بين فكي كماشة التحالف التركي ـ الاميركي ـ الاسرائيلي وهو تحالف مضاد للعرب بدون ادنى شك، ومضاد لسوريا على وجه الخصوص لأنها تصبح محاصرة من قبل اسرائيل من جهة، وتركيا من جهة أخرى.

ويحاول بعض العرب مواجهة هذا التحالف بتحالف مضاد مؤلف من القوميين العرب من جهة، والاصوليين الراديكاليين من جهة أخرى، وهم يحققون بعض النقاط الآن في العراق من خلال اعمال التفجيرات والاغتيالات التي ذكرناها آنفا.

في الواقع ان الرهان الاكبر للعملية كلها هو التالي: هل سيصبح وجود اسرائيل مشروعا في المنطقة أم لا؟ وهل تكفي القوة الجبروتية العظمى لاميركا لتحقيق هذا الهدف؟ يبدو انها لا تكفي حتى الآن، وهنا تتبدى لنا محدودية القوة حتى ولو كانت قوة اميركا. هنا تبرز اهمية ما ندعوه بالحقيقة أو بالعدالة واعتقد شخصيا ان اسرائيل بوجهها الشاروني ـ الليكودي لن تقبل في المنطقة حتى ولو كانت وراءها ستون اميركا! اما اسرائيل ذات الوجه العقلاني والانساني المتعطش للتواصل مع العرب والتي تتجسد في شخصيات من امثال يوسي بيلين وابراهام بورغ، وعشرات غيرهما فسوف تقبل عاجلا أو آجلا، وما الاجتماع الأخير الذي تم بينهم وبين وفد فلسطيني برئاسة ياسر عبد ربه في الاردن، إلا خطوة أولى في هذا الاتجاه، وهي خطوة ينبغي ان يشجعها جميع المثقفين العرب الراغبين في ايقاف نزيف الدم والخروج من النفق المظلم يوما ما.. فقد اثبتت التجربة ان اسرائيل لن تستطيع تدمير الشعب الفلسطيني او الغاءه من الوجود، وان العرب لن يستطيعوا تدمير اسرائيل، وبالتالي فإن صوت العقل ينبغي ان ينتصر يوما ما ويفرض التعايش السلمي على ارض الواقع.

وهذا ما يعتقده «ايلي برنافي» سفير اسرائيل السابق في باريس واستاذ علم التاريخ في جامعة تل ابيب، ولكنه يرى ان هذا الشيء لن يتحقق بدون تدخل خارجي يفرض الحل على الطرفين فرضا. وهو يقترح في مقابلة ادلى بها مؤخرا لجريدة «الفيغارو» وضع الاراضي الفلسطينية المحتلة تحت سيطرة الامم المتحدة وارسال قوات دولية كبيرة الى المنطقة لفك الاشتباك بين الطرفين. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن الخروج من تلك الحلقة الجهنمية أو الجنونية للثأر والثأر المضاد. وبالتالي فالمسؤولية تقع على كاهل الامة الدولية بأسرها وليس فقط على الفلسطينيين أو الاسرائيليين. فأنت هنا امام الوضع التالي: هناك شخصان يتشاجران ويضربان بعضهما البعض والدم ينزف منهما. فاذا لم يتدخل طرف آخر ويفصل بينهما فسوف يدمران بعضهما كليا.

ويصل الأمر بايلي برنافي الى حد القول: ينبغي علينا ان نغادر الاراضي الفلسطينية بأي شكل سواء بعد توقيع اتفاق مع الفلسطينيين أم بدون اتفاق. ينبغي علينا ان نحمل حمائلنا ونذهب ونفكك المستوطنات أو المستعمرات. فمصير اسرائيل، أو بقاؤها على قيد الحياة، اصبح يتوقف على اتخاذ مثل هذا القرار.. تصريح مهم وممتاز، ويا ليته يطبق فورا، ولكن ما العمل أمام جحافل شارون وموفاز من جهة، والقنابل البشرية لحماس والجهاد الاسلامي من جهة أخرى؟ وكيف يمكن لصوت العقل ان ينتصر في مثل هذا الوضع؟ كيف يمكن لبصيص النور ان ينبثق في نهاية النفق المظلم؟

هذا ما ستجيب عنه الايام التالية عندما يحسم الصراع في العراق لصالح احد الطرفين ضد الطرف الآخر. ولكن، هناك صراع آخر لا أحد يتحدث عنه. وهو في رأيي أهم من كل صراع لأنه يمس النوابض النفسية العميقة للشعوب. واقصد به الصراع الفكري أو الروحي، فبدون السلام الديني لا يمكن ان يتحقق، أو يترسخ، السلام السياسي، وهنا نجد انه ينبغي ان تحصل عملية تنوير واسعة في المنطقة من اجل تحجيم التأويل المتعصب أو المتزمت للاديان التوحيدية الثلاثة: يهودية، مسيحية، اسلام. فما دام المتعصبون يشكلون اغلبية في كلتا الجهتين فلا أمل بالحل أو بالخلاص. وهنا تتبدى محدودية السياسة امام عظمة الفكر وضرورته. ولكن المشكلة هي ان هذا الفكر الجديد الذي ندعو اليه والذي هو وحده قادر على انقاذ المنطقة لا يمكن ان يتبلور بين عشية وضحاها. وانما يلزمه وقت طويل لكي يتشكل وينتشر في الاوساط الواسعة والعميقة للشعب. ثم انه سوف يصطدم حتما بالعقلية القديمة الراسخة منذ مئات السنين.