صرخات فن الاستماع الغائب

TT

لفت انتباهي عنوان عريض بصحيفة نيويورك تايمز، عدد السبت الماضي، وكان على النحو التالي: «تشيني يشن هجوما على معارضي السياسة الأميركية في العراق».

قلت لنفسي عندما رأيت العنوان أن هذا سيكون حوارا مثيرا بحق. ثم قرأت الاستدراكات الدقيقة. كان تشيني يخاطب مجموعة مختارة من الضيوف بمؤسسة التراث المحافظة ولم يكن من المسموح حتى بتوجيه أسئلة. هذا شيء عظيم! أسامة بن لادن وصدام حسين يرسلان الرسائل من كهوفهما عن طريق قناة الجزيرة، وديك تشيني يرسل رسائله من مخبئه الحصين من خلال قناة فوكس. أميركا تحاول تطوير الديمقراطية في العراق، ولكن قادتنا لا يستطيعون عقد اجتماع حقيقي في قاعة البلدية أو مؤتمر صحافي توجه فيه الأسئلة.

نزولا على مقتضيات العدالة شعرت نيويورك تايمز، أن من واجبها نقل مثل هذه الأحداث. ولكني تمنيت لو أنها قالت لنائب الرئيس: إذا كنت تريد إلقاء خطاب مهم حول العراق، لمستمعين من مؤيديك وحدهم، وتمنع فيه توجيه الأسئلة، فإن هذا لا يعد خبرا، بل هو إعلان. وعليك أن تشتري مساحة معينة في صفحة الإعلانات.

مثل هذا المنهج ربما يخدم الصحافة والأمة في نفس الوقت، إذ انه ربما يجبر هذه الإدارة على الاستماع إلى آخرين ليسوا من داخل صفوفها. كما أن تعلم الاستماع ربما يكون الطريقة الوحيدة التي تسمح لإدارة بوش بأن تحصل على التأييد الضروري لنجاحها في العراق، وأن تحافظ على ذلك التأييد.

يمكن للاستماع إلى الآخرين، أن يجبر إدارة بوش على تعديل رؤيتها للسياسة الخارجية الأميركية بحيث تقوم على آمالنا ونياتنا الخيرة تجاه هذا العالم، وليس فقط على مخاوفنا منه. وبين كل كلمتين تتفوه بهما هذه الإدارة تكون إحداهما كلمة «الإرهاب». توقفنا تماما عن تصدير الآمال التي تعمر الصدور، مع أن الأمل هو أهم البضائع التي تملكها أميركا. نحن حاليا نصدر الخوف وحده، وستكون نهايتنا استيراد مخاوف الجميع من كل أنحاء العالم.

نعم، تواجه أميركا مخاطر حقيقية، ومن النقاط الجيدة التي تحسب لصالح هذه الإدارة أنها واجهت هذه المخاطر بمسؤولية كبيرة. ولكن أميركا لديها كذلك كثير من الأصدقاء الحاليين والمحتملين، ورعاية هؤلاء تعد أيضا جزءا من أمننا القومي. ولا يمكننا والحالة هذه أن نقضي كل الوقت نتحدث عن أعدائنا وننسى تماما الاستماع إلى أصدقائنا، لأننا بدون هؤلاء، لا نستطيع أن نكسب اية حرب، سواء كانت حرب إرهاب أم حرب أفكار.

ولو كانت هذه الإدارة المنكفئة على ذاتها تفتح أبوابها لبعض معارضيها الأكثر اعتدالا، دع عنك الأجانب، لتجنبت بعضا من أفظع الأخطاء التي وقعت فيها. فلو أنها استمعت لرئيس هيئة أركان الجيش، على سبيل المثال، والذي كان قد عمل بالبوسنة، لربما كانت قد أرسلت عددا أكبر من الجنود إلى العراق. ولو انها استمعت حتى لوزارة خارجيتها، لربما أحجمت عن تسريح الجيش العراقي دون ان يكون لديها عدد كاف من الجنود لسد الفراغ.

الاستماع علامة من علامات الاحترام. ومما يدهش أن الناس يسمحون لك بتوجيه عدد غير محدود من الانتقادات، فقط لأنك استمعت إليهم في البداية. وكنت قد استمعت قبل يومين إلى رتشارد برودهيد، عميد كلية ييل، وهو يسدي نصيحة من هذا النوع لطلابه الجدد. قال برودهيد لطلابه:

«حاولوا قبل كل شيء، ألا تحصروا ارتباطاتكم مع أولئك الذين يوافقونكم في الرأي. قرأت أن الأحزاب السياسية الأميركية توصلت إلى أن الاستراتيجية الانتخابية القديمة والتي تتمثل في التوجه أولا إلى النواة الحزبية الصلبة وللمؤمنين حقا برسالة الحزب، ثم التوجه بعد ذلك إلى المستقلين وغير المقتنعين، ربما لا يكون قد عفا عليها الزمن. وأن الأحزاب يمكن أن تحقق أكبر قدر من النجاح بالتوجه إلى القاعدة الحزبية. وربما يكون هذا أسلوبا جيدا في مجال السياسة، ولكنه لن يكون جيدا في مجال الفكر الذي ينتج عن هذه السياسة. مَنْ الأقدر، في اعتقادنا، على مواجهة تحديات العصر أهمُ أولئك الذين يوجهون خطبهم فقط إلى المؤمنين برسالتهم، أم اولئك الذين اختبروا مفاهيمهم بمقارنتها مع مفاهيم الآخرين؟»

من حسن الحظ أن هناك مجموعة من الناس يستمع إليها فريق بوش وهي الأغلبية العراقية الصامتة. ومن المفارقات أن العراق هو المكان الوحيد الذي اختار فريق بوش ألا يكون مهوسا فيه بالإرهابيين، والا يركز عليهم وعلى صخبهم بصورة حصرية، بل يواصل عمله في بناء عراق افضل من أجل العراقيين رغم كل القنابل التي تتفجر في جميع الاتجاهات، وذلك لأن بناء العراق من جديد هو المكافحة الحقيقية للإرهاب على المدى الطويل.

ومن سوء الحظ أن فريق بوش اختار في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، أن يسير خلف ارييل شارون واستراتيجيته الفاشلة في الاستماع فقط إلى الانتحاريين، وتأجيل كل المبادرات إلى ما بعد هزيمتهم. ولذلك فإن الصوت الوحيد الذي تسمعه هناك هو صوت الإرهابيين. ولم يقم أي واقع جديد لخنقهم ومواجهتهم، وهذا هو بالضبط ما يريده الإرهابيون انفسهم.

* خدمة نيويورك تايمز) ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»