.. لن يعود ذات الشاب

TT

«لماذا يكرهوننا؟». هذا السؤال البسيط المباشر طرحه الأميركيون على أنفسهم بعدما لاحظوا المزاج العالمي العام نحوهم ونحو ثقافتهم، عندما بدا أنهم في مواجهة أزمة علاقة مع شعوب العالم - مازالت ممتدة - طرحوا السؤال، وبدأوا رحلة لم تنته للوصول الى اجابة.

للوهلة الأولى، قد لا تبدو هناك علاقة واضحة بين ما ذكرت سابقاً وبين ما سأذكره الآن، ولكن قد نتوصل الى تلك العلاقة في النهاية.

في أحد أيام الاسبوع الماضي، بحث طالب في الجامعة الاميركية في القاهرة عن مكان يضع فيه سيارته، وقاده حظه العاثر الى أحد شوارع جاردن سيتي ليجد فيه ضالته، ليسرع ويضع سيارته فيه. وكما يقول الأدباء في رواياتهم «لم يكن يدري ما تخبئه له الأقدار»، وفي قول آخر «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن». فقد ترك الشاب سيارته التي وصفتها الصحف بأنها «فارهة» في منطقة يسكن بالقرب منها مسؤول كبير، ليس هذا فقط، بل ان المسؤول الكبير في طريقه للتحرك والمرور في الشارع، وبالتالي تحرك نحوه أفراد الحراسات الخاصة طالبين منه سرعة مغادرة المكان واخلائه، فالمسؤول الكبير في طريقه للمرور في الشارع، فرفض الشاب بشدة، وهمهم بكلمات غير مفهومة من بينها «ان الشارع ملك للدولة، ومن حق أي مواطن الوقوف فيه». هذا وفقاً لما ذكرته الصحف نقلاً عن مصادرها في النيابة، وكان الاجراء «الطبيعي» - فيما أظن - ان تقرر وضع الشاب تحت الملاحظة بمستشفى الأمراض العقلية للكشف على مدى سلامة قواه العقلية. انتهت الحكاية ولم تنته توابعها، فيما يبدو، فإن من يفكر بمثل هذه الطريقة في حقوق الملكية العامة وحقوق المواطنين في منطقة مرور أو احتمال مرور مسؤول كبير ليس له مكان إلا مستشفى الأمراض العقلية، حتى تختبر قواه العقلية التي هي بالتأكيد قاصرة على فهم حدوده، ولهذا وصفت الاجراء بأنه «طبيعي».

عندما قرأت هذا الخبر بالتفاصيل التي ذكرتها شعرت بما شعرتم أنتم، شعرت بمزيج من الغضب والدهشة والحسرة والألم، وطلبت من الزملاء السؤال حول أبعاد هذه القصة المحزنة، وعلمت ان الشاب الذي يوشك أن ينهي دراسته في الجامعة الاميركية لم يفعل أكثر من الاصرار على حقه في أن يضع سيارته في مكان مسموح فيه بذلك، واعتقد ان هذا حقه حتى لو كان أحد راكبي السيارات «ذات الستائر السوداء» سوف يمر في الطريق، وكانت النتيجة ان اقتاده الحراس الى قسم الشرطة متهمينه باعتراض موكب المسؤول الكبير، وحاول الشاب أن يدافع عن نفسه ويشرح وجهة نظره وأنه لم يعترض موكب أحد، ولم يسمع له أحد ووضع في الحجز طيلة النهار، وفي نهايته تقرر عرضه على مفتش الصحة لبيان حالته النفسية، ويبكي الشاب وهو يعود الى الحجز ليبيت فيه ليلته ليقتاد في الصباح الى مفتش الصحة الذي يقرر بأنه «مختل عقلياً»، ويقرر إيداعه 45 يوماً تحت الملاحظة. المصادفة وحدها هي التي توقف هذا المسلسل الأليم الكئيب، إذ يعرف المسؤول الكبير بما حدث عن طريق شخص آخر يعرف الشاب المنكوب ويملك قدرة الاتصال بالمسؤول الكبير الذي يقرر وقف كافة الاجراءات ويعود الشاب الى منزله.

عاد الشاب الى منزله لكنه لن يكون أبداً ذلك الشاب الذي خرج في صباح أحد الأيام مقبلاً متفائلاً، ليواجه واقعا صادما، من عاد بعد هذه التجربة لن يكون أبداً الذي كان يأمل المجتمع أن يكونه.

ما من تجربة تعرض لها شخص واحد، لكنها تصلح كدلالة على كم الأخطاء التي تدير به مؤسسات الدولة - أي دولة - علاقاتها مع أفرادها، ونموذج لكيفية توسيع الهوة بين المسؤولين والقيادات وبين الجماهير، أسلوب مثالي لتأكيد العزلة بين الطرفين، الدولة وقياداتها ومسؤوليها من جهة، والناس في الجهة الأخرى، التي يمكن أن تتحول الى جهة مقابلة.

عودة مرة أخرى الى السؤال الأميركي الشهير «لماذا يكرهوننا؟»، هو سؤال طرح في وقت أزمة، ولست أدري هل بدت العلاقة بين هذا السؤال وبين القصة المؤلمة التي ذكرت؟

[email protected]