كسر حاجز اللغات

TT

في عام 1975 اجتمعت برجل من طائفة (شهود يهوه) في ألمانيا فقال لي إن الله عاقب البشر حينما بلبل ألسنتهم في بابل، فبعد أن كان الناس ينطقون بلسان واحد حل عليهم الغضب الإلهي فتنوعت اللغات. وهو كلام غير صحيح علمياً فلم ينطق البشر منذ أن خلقهم الله يوماً واحداً بلغة مشتركة.

وكان جوابي على الرجل أن القرآن يعتبر هذا من آيات الله للبشر « ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم». ويوجد على ظهر الأرض اليوم أكثر من ستة آلاف لغة ينقرض منها كل عام العشرات. وكلام الرجل جاء من العهد القديم : هلم فلنبلبل ألسنتهم. فعندما انهار برج بابل نظر الناس إلى بعض فلم يفهم أحد على الآخر. وهذا الكلام قد ينفع في بناء الأساطير ولكن ليس له نسب من العلم.

وفي يوم اجتمعت بمحمد عنبر بعد أن اطلعت على كتاب له بعنوان «جدلية الحرف العربي» زعم فيها أنه حل المشكلة الوجودية في كل اللغات وأن كل كلمة تحمل معناها ونقيضها في نفس الوقت. ولكن علماء الأنثروبولوجيا والألسنيات لم يستطيعوا حتى اللحظة أن يجيبوا إلا على سؤال واحد بأن لغات البشر أجمعين تشترك في سمات واحدة ولكن لا يستطيع أحد الادعاء أن أصلها لغة واحدة مفقودة، مثل الحلقة المفقودة في نظرية دارون؟ وهذه الفكرة أغرت الفرعون (بسماتيك الثاني) ان يحبس أطفالا معزولين عن العالم ليعرف أي لغة ينطقون؟ وهو ما فعله أيضاً الملك (فردريك الثاني) المستنير حاكم صقلية من القرن الثاني عشر للميلاد تحت ضغط نفس الفكرة. ففي زعمه أن اللغة أمر وراثي وأن أصل اللغات العبرية، ولكن الأطفال في كلا التجربتين لم ينطقوا شيئاً. ونحن نعرف اليوم أن اللغة والكتابة أمران كسبيان وأن الطفل إذا حرم من تعلم هذه المهارة في سنوات عمره الأولى فقدها إلى الأبد، كما في قصة (صبي أفيرون الوحشي) التي جاءت في كتاب (بنو البشر) في سلسلة عالم المعرفة للكاتب (بيتر فارب).

والمهم، فاللغات تمثل حواجز ثقافية بين شعوب الأرض والترجمة حلت هذه الإشكالية. وترجم الإنجيل إلى معظم لغات الأرض. ولكن المشكلة الملحة حاليا هي رغبة البنتاغون الأمريكي في كسر حاجز اللغات من أجل مراقبة العالم بعد أحداث سبتمبر، وفي معهد الأبحاث (داربا Darpa) التابع له يوجد مشروع باسم (تايدس Tides) مجند لهذا الهدف. والأمريكيون لهم باع طويل في هذا الموضوع نظرا لتدفق كل الملل والنحل واللغات إلى الشمال الأمريكي بما يحيل نيويورك ومونتريال إلى بابل جديدة. ولكن المسألة الأمنية حركت عندهم الرغبة الملحة لكسر حاجز اللغات بأي ثمن كي يفهموا ويراقبوا من تجب مراقبته؟ سواء كانت ألبانية أو بنغالية أو قفقاسية؟ وفي الخمسينات بدأوا المشروع لكسر حاجز اللغة الروسية، ولكن بعد إنفاق المال الوفير والجهد الكبير لم يصلوا إلى طائل فوصلوا إلى القناعة القائلة ان اللغة معقدة إلى الدرجة التي لا يمكن للآلة أن تحل هذا اللغز؟ ولكن هذه الخلاصة تمت إعادة النظر فيها من جديد وبدأ خبراء التجسس في وكالة الأمن القومي (NSA) في تجنيد خبراء الكمبيوتر لهذا الغرض ونشرت مجلة در شبيجل الألمانية (2003/3/8) أن الشاب (فرنتس يوزف أوخ) تم إغراؤه والتقاطه إلى مدينة لوس أنجلوس إلى جامعة جنوب كاليفورنيا ليقفز فوق هذا الحاجز الخرافي. وكانت بداية التعامل معه حينما تم تقديم عرض إلى أربعة فرق من خبراء الكمبيوتر في الأول من يونيو 2003 أن ينطلقوا إلى فك اللغة الهندية واستطاع هذا الشاب البالغ من العمر 31 سنة من مدينة آخن الألمانية ولم يأخذ بعد الثانوية العامة أن يكسر حاجز اللغة الهندية في أربعة أسابيع. ويعترف الرجل أن ترجمة الهندية تحتاج إلى شيء من الجهد البسيط ولكنها تعين بما يستطيع الإنسان أن يقرأ الأشياء الرئيسية في جريدة عامة باللغة الإنجليزية وهو يقلب صفحة هندية.

وتجربة الرجل جاءت من اهتمامه بتسخير الكمبيوتر لقهر اللغات على نحو غريب غير الطرق التقليدية. وعندما يتحدث إلى خبراء الإرهاب والجاسوسية الأمريكيين يأخذ الانجيل بيده ويقول في البدء كانت الكلمة.

وهي الفقرة الأولى من انجيل يوحنا. ثم يقول إننا لا نعتمد قواعد النحو والصرف التقليدية بل نعتمد ببساطة القوة البدائية الإحصائية للكمبيوتر وطاقة الحساب. إننا بكلمة ثانية لا نعلم الكمبيوتر اللغة بل ندعه يتعلمها بنفسه. ولشرح هذا فإنه يعتمد اللغات الموازية. وهو ما يذكر بالعمل الذي قام به فرانسوا شامبليون العالم الفرنسي عام 1822 على حجر رشيد الذي كتب عام 200 قبل الميلاد وبثلاث لغات هي اليونانية والديموطيقية والهيروغليفية وعثر على الحجر مع بعثة نابوليون في مصر عام 1799 ولكن شامبليون سهر على الحجر 13 سنة حتى كانت تلك الليلة التي انفكت فيها أسرار اللغة الهيروغليفية فعادت إلى الحياة وخرج الفراعنة من قبورهم يتكلمون وفاح المكان ببخور كهنة آمون فخرّ شامبليون صعقاً مغشيا عليه.

يقول الألماني (أوخ Och) إنه فك معظم لغات الاتحاد الأوربي الخمس عشرة بما فيها اللغة الفنلندية المزعجة. وكذلك الصينية واليابانية بل وحتى لغة (السيبوانو Cebuano) في أحد جزر الفيلبين ولا ينطقها سوى 19 مليون نسمة، وفعل ذلك كله في عشرة أيام ويقول إن أمر بعض اللغات لا يحتاج أكثر من ساعات. كل ما تحتاجه هو تلقيم الكمبيوترات السريعة الكلمات لتتفاعل في احشاء الجهاز فيهضمها فيتمكن منها فيحولها مثل وشيعة الكهرباء من لغة إلى لغة فلا تحتاج كل لغة كي تنقل على ورقة من حجم A4 إلى اللغة الانجليزية أكثر من دقيقة واحدة؟

وطريقة عمل الكمبيوتر تعتمد على أسلوب مستحدث كما ذكرنا عن حجر رشيد عن طريق اللغات الموازية وبشيفرة مكونة من عشرة آلاف سطر اخترعها الكمبيوتر لنفسه كي يفهم في بحر نصوص اللغات المتوازية الجمل مترجمة من لغة لأخرى.

ولكسر جدار اللغة العربية مثلاً فقد تم تلقيم الكمبيوتر بحوالي 150 مليون كلمة من مصادر شتى باللغتين العربية والإنجليزية من كل النصوص الموجودة على ظهر الأرض بما فيها المصطلحات من نشرات الإذاعة والقواميس ووثائق الأمم المتحدة وباللغتين ثم يقوم الكمبيوتر بفهم الكلمات المتوازية وتوليد النصوص الجديدة المترجمة. فمثلا كلمة الرجل الكبير والرجل السمين كما يقول أوخ باللغة الألمانية يعزل فيها الكمبيوتر الرجل لأنه مشترك ليقرر بعدها السمين والكبير. وحجم 150 مليون كلمة للغة العربية تعني ما نشر على مدى ثلاثين سنة لمجلة تصدر أسبوعياً وعلى مدار ثلاثين سنة وتضم في المتوسط 300 صفحة. ولكنها بالنسبة للغة الهندية لم تتطلب أكثر من ثلاثة ملايين كلمة.

ومن اللافت للنظر أن الكمبيوتر بدأ بالتقاط أشياء جديدة في الترجمة فلم يعد ذلك الصندوق الحديدي الغبي. بل بدأ يفهم جملة (من أين تؤكل الكتف) انها لا تعني الأكل من الكتف بل المهارة في التعامل. أو في اللغة الهولندية لشعب يعشق الجبنة وصناعتها أن جملة (لم يأكل بعد من جبنة الدكان) انها تفيد أنه لا يفهم في المصلحة؟ أو جملة (يضرب على أذنه) باللغة الألمانية انها لا تعني الضرب الحقيقي على الأذن بل الغش والاحتيال.

ويعترف (أوخ) أن عمله غير كامل والكمال لله، وكثير من النصوص تهذي وتعرج وتنطق باطلاً ولغوا. والمهم فالمشروع يحبو مثل الطفل في أول مشيته من عامه الأول. وأما نقل الشعر إلى الشعر فهو أمر بعيد المنال حالياً.

ومصلحة الجيش والاستخبارات في البنتاغون لم تصرف 22 مليون دولار هذا العام لعمل أكاديمي بل يهمهم (الميمي الثلاثي؟): من؟ متى؟ ماذا؟ ثم.. أين؟ وأكثر همهم ومبلغ حرصهم فك أسرار اللغة العربية حاليا وهي اللغة الأكثر اختراقا وتطويعا في الكمبيوتر.