شهادة على حلم انتهى بكوابيس! (1 من 2)

TT

نعم. ينبغي القول اننا هربنا من العراق. هربنا من بغداد الجميلة التي كانت تهتز بآثار زلزال خفي في أواخر عام 1978. وعندما أقول هربنا، فإني أعني نحن: ذلك الخليط العجيب، المتقارب والمتناقض في آن، من الكتاب والصحفيين والمثقفين، مستقلين وشيوعيين وأنصارا للشيوعيين وأكرادا ممن بصمت أوراقهم الشخصية بعبارة «تبعية إيرانية» وعرفوا في بغداد باسم الأكراد الفيلية.

هذا الهروب لم يكن جماعيا فوق السطح، أي أنك لا تستطيع أن تلتقط له صورة وثائقية، كالتهجير الفلسطيني، أو صور مآسي الهولوكست اليهودية. لكنه كان هروبا مقنعا، اتخذ له مسارات جغرافية مبعثرة: الحدود السورية. كردستان. الحدود الإيرانية. الأردن. أي شمالا وشرقا وغربا وبطرق وأساليب منها ما ينتمي إلى أساليب الفرار من الخدمة العسكرية، ومنها ما يشبه تصرفات طفل خائف مذعور قتل أهله، ومنها ما يتكئ على كذب بريء ومفضوح خوفا من إعدام لا بد منه.

كان ذلك عندما سرى كالماء الحار اللاذع همس يؤكد حملة ما اصطلح على تسميته «التبعيث الجديد» أو «التوقيع» إذ بدأت عريضة بيانات توزع على العاملين في كل المؤسسات ليملأ كل منهم خاناتها ويوقع معترفا انه لم ينتم في السابق لأي حزب غير حزب البعث، وأنه سيصدر حكما بإعدامه إن اكتشف بأنه سبق له الانتماء لحزب أو حركة سياسية غير بعثية.

كنا نستيقظ كل يوم، ونمضي ساعات العمل في انتظار وصول هذه العريضة التي يقال انها بدأت في المصالح العمومية وسوف يكون الإعلام المحطة الأخيرة لتشريفها.

في تلك الفترة، في بداية ومنتصف عام 1978 تنبهت إلى أساليب الهروب: إجازات مرضية. إجازات بدون راتب. توسط للحصول على منحة دراسية في الخارج. سفر طارئ أو مفاجئ بسبب وفاة أو زفاف! كذب بريء ومفضوح، حتى طارق عزيز عندما كان وزيرا للإعلام في تلك الفترة، وسئل في لقاءات صحافية عن أرتال المثقفين العراقيين الذين غادروا أو هربوا من العراق بعد بداية حركة التبعيث التي مزقت آخر فتات من حلم الجبهة الوطنية قال: «هؤلاء خرجوا بأنفسهم. لم يطردهم أحد، ولم يغصبهم أحد. هم خرجوا بموافقتنا. وقعنا لهم على جوازات السفر بأنفسنا. لم يقبض عليهم أحد. هم اختاروا ترك جنة الوطن فليخسروا إذن نعيم التمتع بالانتماء إليه» (هل هكذا أسقطت إذن الجنسية العراقية عن الشاعر الراحل محمد الجواهري؟) ما أذكره أنه بعد هذا الخروج الجماعي، أعلن عن تغيبنا عن العمل في لوائح نشرت في الصحف، ومنحنا مهلة زمنية للعودة، ثم أعلن فيما بعد أن المتخلف سيتعرض للمحاسبة، وبين فترة وأخرى ظلت تصدر بيانات، وترسل المراسيل, تؤكد أسلوب الترغيب والترهيب لتطويع هؤلاء المتمردين من الكتاب والصحافيين والمثقفين.

تعليمات للصد والود!

حدث هذا بعد ثمانية أعوام من تأسيس الجبهة الوطنية التي مدت فوق أرض العراق سجادة أحلام من الوئام بعد تاريخ دموي متأجج اندلع بين أعوام 1963 و 1968 وأصبح معروفا ولا جدوى من إعادة اسطوانته.

منذ عام 1970 وما تلاها من سنوات قليلة شهدت الأيام مشاهد تشبه الأحلام، تتكوم لتكريس حلم قيام جبهة وطنية تجمع لأول مرة في تاريخ العراق الحديث حزب البعث والحزب الشيوعي. في تلك الفترة نفض الشيوعيون عن ملابسهم دماء الماضي، وتناسوا أيام التقاتل والاعتقال، واقترب البعثيون بوهم حب الوطن والمصلحة الوطنية والقومية، فنشطت دعوة الجميع للتهليل لهذا الحلم أو الوهم، وقد تجلى ذلك بمشاهد مختلفة: المشهد الأمني تجسد بالإفراج عن المعتقلين السياسيين من الحزبين، والمشهد السياسي تمثل بعودة افتتاح مقرات الحزب الشيوعي، أما المشهد الإعلامي فقد توج كل هذا بإقامة مبنى ضخم (قياسا إلى تلك الفترة) ضم مقرات ومكاتب صحف ومجلات، منها جريدة الجمهورية، أضخم جريدة برزت كي تكون صوت الجبهة الوطنية الجديد الذي يجمع أصوات البعثيين والشيوعيين، ومجلة «ألف باء» التي تراوحت بين أن تكون نسخة من مجلة الصياد اللبنانية الشهيرة ومجلة روز اليوسف وصباح الخير المصريتين، وجريدة الاوبزرفر التي تصدر باللغة الإنجليزية، فيما ظلت جريدة «الثورة» الناطقة بلسان حزب البعث في مبنى آخر ومنطقة أخرى (الكرادة الشرقية)!

موديل السيد النائب!

قيل أن زمن الجبهة الوطنية سيشهد مزيدا من هامش الحرية، ومن هذا الهامش عودة جريدة طريق الشعب الناطقة بلسان الحزب الشيوعي إلى الصدور، وانه يمكن ـ بعيدا عن قيادة جريدة الثورة ـ أن تكون في الصحافة البغدادية نغمتان منسجمتان: نغمة الزملاء من «الرفاق البعثيين» الذين أصبحوا رؤساء تحرير الصحف الجبهوية، ونغمة الزملاء من «الرفاق الشيوعيين» الذين أصبحوا مدراء تحرير، فيما تتولى عزف مقطوعات النغمتين مجموعة من رؤساء الأقسام والصحفيين والكتاب، سواء من الحزبيين الصغار أو المناصرين أو الأصدقاء أو المستقلين من أمثالنا!

كان البعثيون يمتازون بلباسهم الرسمي وأربطة العنق والشوارب التي تحاكي نموذج إطلالة «السيد النائب» (صدام حسين) يظهرون بتحفظ وأناقة ملفتة، ويغيبون نساءهم عن الأماكن العامة، وعلى عكسهم، يظهر الشيوعيون بملابس «عمالية»، قمـــصان وسراويل وسحنة إهمال وتهكم وسخرية من «أبو القاط والرباط» (أي مرتدي البدلة وربطة العنق) يتأبطون أذرع نسائهم وينطلقون في حفلات المهرجانات وســهرات اتحاد الأدباء.

هـــــكذا في أواخر عام 1971 أصبحت بينــــهم في جـــــوقة العزف الصحافية في عهد الجبهة الوطنية، رئيسة لقسم التحقيقات في مجلة ألف باء، بينما ترأس زوجي الشاعر جليل حيدر القسم الثقافي.

عرب واتهامات!

«نزل وتدبيج على السطح»

هذا مثل شعبي عراقي يعني «أنت ضيف وتزعج أصحاب البيت»

وهو ما قاله لي أحد المحررين في القسم الذي كنت أتولى مسؤولياته، ولكني من جانب آخر وكما يراني آخرون، كنت ضيفة معقولة، لا أحصل إلا على راتبي، عكس الكثيرين من المثقفين والكتاب والفنانين العرب الذين جاءوا ضيوفا أو متملقين أو كسابين كما تقول الهمسات في كواليس مبنى الدار، أو سهرات النوادي وبارات المعقدين ومطاعم باب الشرقي (مركز بغداد).

كانت رواتبنا لا تتجاوز الـ60 دينارا، ربما أصبحت بعد سنوات 80 دينارا، لكنها كانت بالنسبة لنا، نحن الصغار الذين نحمل قضية وأحلاما ومقتنعين ومتوهمين أننا سنلعب دورا «تاريخيا» مهما في هذه المرحلة الحاسمة من حياة الأمة العربية! (اكتشفت مع السنوات أنها مرحلة متواصلة عاشها أهلي ويعيشها الآن أبنائي) تعتبر رواتب جيدة تمكننا من تأجير بيت وشراء أثاث بالتقسيط من «الدلالات» الجوالات على البيوت. غير أننا كنا واهمين، فقد أخذت نغمتنا «الجبهوية» تتراجع إلى صفوف العازفين المكملين، أما «السولو» فقد بدأ يتوافد من مصر وسورية والأردن ولبنان، نلاحظه من أعلى الهرم السياسي في القيادة القطرية إلى المنطقة العليا والوسطى من الهرم الثقافي. ها هو الناقد غالي شكري يمر في ممرات المبنى بأناقته المميزة ونظارتيه، نسمع همسات أنه سيكون مستشارا خلف الستار، نسمع صفقة عن آلاف وراتب يصيبنا بالغيظ، وها هو الكاتب محمود السعدني، يجاورنا في مكتب أنيق. له عمود وطلة وسخرية لاذعة، ويقال أيضا أنه يسافر ويعود ويقبض مكافآت «جوة العباية» أي سرية. وها هو الصديق جمال الغيطاني (لم يكن صديقا في تلك الفترة) فقد كان شبحا نراه في مكتب أو ممر، ثم نعلم أنه صديق الكبار. أرى وجهين من زملائي يتقاربان في كافيتريا المؤسسة، أمامهما طبقان حاران من شوربة العدس تتصاعد منها رائحة الكمون: جمال الغيطاني صديق عدنان خيرالله. كان عدنان خير الله وزير الدفاع، وسيضع جمال كتابا عن دور الجيش العراقي في حرب أكتوبر، فحرب أكتوبر هي التي أينعت حديقة الجبهة الوطنية. لكن جمال سيكتب «حراس البوابة الشرقية» وستتعالى الهمسات، وسيغضب منه أصدقاؤنا، وسيتهم بأنه اقترب وقبض.. حتى تصل النميمة إلى اتهامه ظلما قبل أشهر بكتابة رواية «زبيبة والملك» التي نسبت لصدام حسين.

قبل أيام كنت أتحدث مع جمال بالهاتف، قال لي بمرارة، تعلمين عن هذه الحملة ضدي. ولا أعرف لماذا لا يصدق هؤلاء الذين يتهمونني أني لم أذهب إلى العراق منذ عام 1981؟ أنا كنت صديقا لعدنان خير الله وكنت أجريت معه حوارات. أما كتاب جبهة البوابة الشرقية فقد طبع للمرة الأولى عام 1975، وكنت زرت العراق لأتابع تفاصيل مشاركة الجيش العراقي في حرب أكتوبر. تذكري في تلك السنوات أن البعثيين والشيوعيين كانوا يقفون صفا واحدا ضد حركة التمرد الكردية التي يقودها البرزاني…

كان يتحدث بمرارة، وعلى الضفة الأخرى يصر أصدقاء أنه صمت وظل صديقا لمن اضطهدهم وقهرهم.. ولعل موقف جمال الغيطاني والموقف منه يظل مثالا صارخا للتشنج الذي يسود المناخ والعلاقات بين المثقفين من كتاب وصحافيين، ولا أفهم لماذا يصاب الجميع بعدوى سياسة المقاطعة التي لم تجد حتى في التاريخ السياسي البحت، ولماذا لا يبدأ حوار مصارحة وتصارح.

هل كان كل الذين يأتون يتكسبون أو يتملقون؟ لا. ففي تلك الفترة كان الصراع الخفي أيضا بين ضيوف يدعون من قبل «الرفاق البعثيين» وضيوف يقترح دعوتهم «الرفاق الشيوعيون» وفي بداية عهد الجبهة الوطنية، زارنا فنانون وكتاب كانوا في اعتقادنا يغنون على نغمة اليسار ومنهم محسنة توفيق وعبد العزيز مخيون. وكم كان يسعدنا أن يرفض النجم المدعو سيارة وزارة الإعلام والمرافقين لينطلق معنا، بعيدا عن القيود الحزبية والشعارات القومية. احتفلنا بعبد العزيز مخيون، وأصبح من أصدقائنا، يمضي معنا أوقاتا في البيت، تبرق أعيننا لسماع تجربته في مسرح القرى الذي ينطلق إلى أقصى الصعيد، لكننا لم نحتفل بمحسنة توفيق التي لبت دعوة الوزارة في زيارة مفتوحة، فمكثت في فندق في شارع أبي نواس. أذكر زيارتي لها وحوارا ونقاشا نشر في زاويتي في مجلة «ألف باء» التي كانت تحمل اسم «دليل المدينة»، وأذكر همسات النميمة التي تصاعدت بعد ذلك حول زيارة الفنانة التي لبت دعوة مفتوحة، فجلست وأطالت ـ كما قيل ـ حتى تلقت رسالة ودية بعد شهر من إقامتها تشكرها فيها وزارة الإعلام على تلبيتها الدعوة وتطلب منها تحديد موعد مغادرتها لترتيب إجراءات السفر.

وقد تكون الفنانة القديرة ظلمت في هذه النميمة، وقد يكون أصحاب الدعوة أنفسهم يعيشون ازدواجية أخذت تظهر وتتضح وترسم شقوقا في الأرض وسطح وفضاء الجبهة الوطنية. فهل لأن محسنة توفيق محسوبة على اليسار كان على البعثيين المحافظين أن يطعنوا بها؟ أم لأنها لبت دعوة وزارة الإعلام التي ما زال بعض «الرفاق الشيوعيين» ـ رغم اتفاق وانسجام الجبهة ـ يعتبرونه، ولا بأس من إثارة نميمة تغيظها؟!

ترغيب وترهيب

المحافظون والتقليديون كانوا يحسبون بأنهم من «جماعة الأب القائد» ولم يكن لهم بريق أو حماس، أما «جماعة السيد النائب» فهم الشباب، ومن فلقتي الجبهة. أي نحن، المجددون الذين بدءوا يرون في صدام حسين الشخصية اليسارية التي ستجفف عفونة حزب البعث وتعصرنه، هو تروتسكي جديد وصديق كاسترو، كما تراه الأمنيات التي تختلط بالأوهام، وسيتركنا نصخب في حدائق جمعية الفنانين التشكيليين - ثائرين لتشيلي في مهرجان قومي عالمي! مؤبنين اللندي، وسيكتب له بعض المحسوبين على الشيوعيين قصائد تذكر اسمه وتتغنى به. ولم لا؟ أليست هذه أجمل أيام العراق؟ ألم تثبت الجبهة الوطنية حضورها وقدرتها على جمع شتات نفوس هذا الشعب؟ّ ألم يغن الشيوعيون نشيد الأممية ويصفق صدام ويتعانق الرفاق الكبار في حفل ضخم بقاعة الاحتفالات بقصر المؤتمرات ( قاعة الخلد)؟

في ذلك الاحتفال، كان صديقنا الشاعر الراحل رشدي العامل الذي أمضى سنوات الاعتقال الطويلة في سجن النهاية يثمل بين أيدينا، حتى حملناه إلى بيته الذي يجاور بيتنا، محتفلا ببكاء غريب. مصفقا ومغنيا لمن اضطهده وعذبه ثم ضحك عليه وهم من جديد لإعادة تاريخ التعذيب والاعتقال لأبنائه بعد انتهاء العرس وظهور الأنياب.

في تلك الفترة اعتمد أيضا أسلوب الترغيب والترهيب المعروف بشأن أصحاب الكفاْءات المهاجرة وصدر قانون «عودة الكفاءات» الذي يرغب أصحابها ببيت وسيارة ووظيفة مرموقة وراتب مغر وتعويض، ويرهب ويهدد باليد الأخرى بإسقاط الجنسية عمن يتدلل أو يصد أو يصر على الهجر!

ولا يدري أحد، أو يستطيع أن يتلمس أو يكتشف الشرارة الأولى للتحولات، وفي اعتقادي أن ليس هناك شرارة واحدة، بل شرارات، أو أن الأمور تتراكم لكي تتصدع. وكم هو صادق وحقيقي سيناريو أحجار الدومينو الذي يستخدم في السياسة، فالتراكمات بدأت في ثنائية تكاد تصبح ازدواجية. جبهة لحزبين، ولاء لسلطتين، تغيب لقوتين (الشيعة والأكراد) ولكل هذا مشاهد نتلمسها ونحسها، كنت ـ للمثال ـ ألحظ منذ وصولي إلى بغداد مواكب احياء ذكرى عاشوراء ومذابح كربلاء، كانت طقوس اللطم تجري في الشوارع وكنا نقف صفوفا نشاهدها، لكن المشاهد تراجعت وتقلصت واختفت، حتى داخل البيوت، أصبحت النساء اللواتي اعتدن ارتداء السواد و«التشحير» (تغليف شعرهن بالوحل أو سخام الفحم) يفعلن ذلك خفية، وانخفض صوت القراءات التي تحيي ذكر المجزرة، حيث صارت المشاهد داخل البيوت وأمام الأضرحة كأنها مقطعة من فيلم بلا صوت أو موسيقى تصويرية، صامتة، خاطفة، تكاد الشهقة أن تبتلع نفسها، فيما يزداد وجوم البنات والأمهات وتجحظ العيون بنظرات الخوف والهلع.

ذلك تجلى بالطبع مع التحولات في ايران وانقلاب المواقف إلى النقيض بين المعاهدة مع الشاه، والنفور من الخميني ثم ارهاصات الثورة الاسلامية في ايران التي اندلعت عام 1979.

* * *

أما الأكراد الفيلية فكانوا حولي، أعيش معهم، بين أقارب وأصدقاء. يتميزون بالدماثة والرقة والوفاء، يعرفون أنهم ظلموا وطعنوا، رغم دورهم في انعاش الاقتصاد، فقد كانوا نجوم سوق الشورجة المعروف، الا أن الأمر انتهى بهم إلى التهجير أو القتل أو الاعتقال والانقضاض على كل أملاكهم. تعذب الأكراد الفيلية كثيرا بسبب تلك الوصمة على هوياتهم. أرى الكلمات بعيني: عبارة «تبعية ايرانية» مخطوطة بالأحمر في دفتر الجنسية، أمام بند تعريف الأم أو الأب. يصبح حاملها درجة ثانية، أما في الظروف الاستثنائية ـ وما أكثرها! فهو متهم ومنبوذ. أبسط العذابات كان حرمان هؤلاء من مناصب ومواقع ومن الدراسة الجامعية. ومع ذلك كان عليهم أن يؤدوا الخدمة العسكرية (3 سنوات). كان من شروط الدخول إلى الجامعة الحصول على شهادة الجنسية العراقية، وكنت في سنواتي الأولى في العراق أسأل أنسبائي السؤال البريء الساذج: ألستم عراقيين؟

الصورة المفروضة!

حركة التنصيب والتنقلات كانت تتم كطرفة عين، في مطلع النهار أو نهايته، والمحسوبون على القائدين بدأوا يفرزون أنفسهم، وفي المكاتب كان الولاء يترجم بعبارات وقياسات في نشر الصور ومواقع الأخبار للزعيمين، أما في الأحياء السكنية فكانت تصلنا الأوامر بطرق وأساليب ولا أعتقد أنها موجودة في أية بقعة في العالم، فهناك في كل حي أشخاص من معارف أو أقارب أو أنسباء لأصحاب البيوت، نعرف أن لهم علاقة ما بالمخابرات. كيف؟ لأنهم كانوا يســـــهلون للسكان معاملاتهم، من توقيع على وثيقة أو حصول على رخصة بناء أو نقل مدرسي أو تجديد طلب الخ.. هؤلاء كانوا يعرفون كيف يمررون أوامر عجيبة، منها مثلا كلام عابر، لكنه مركز: ففي زيارة أحدهم ـ مثلا ـ لأهل الدار وأمام صينية «الكباب والتمن والمرق» يرفع رأسه ويجول بنظره على الجدران: أرى أنكم لا تضعون صورة الرئيس والسيد النائب في الصالون؟ لماذا؟ «يا معودين كلهم ديعلقوها» (أي كل الناس تعلقها) يعني.. أنا أقول أفضل.. احتياط يعني.. «شلكم بوجع الرأس»؟! وكان الذكي ـ وكل الشعب العراقي ذكي ولماح، ومعظمه مقهور يعرف ما وراء هذا الكلام، وهكذا تضطر الأم أو الأخت «المكرودة» أن تطلب من الناصح والمرشد صورة.. أعني صورتين لتعلقهما وتخلص!

فيروز تقول: لا

لكن فيروز رفضت أن يعلقوا صورة الأب القائد فوق رأسها في مسرح قاعة الاحتفالات، عندما هلت أخيرا لتغني لبغداد والعراقيين قادمة مع حرقة وبحة الحرب اللبنانية. تأخر الحفل يوما كاملا أمام عناد الفنانة الكبيرة.

* كاتبة وروائية لبنانية - والمقال مقتطفات من كتاب يصدر قريبا