نحو مؤتمر وطني وبرلمان سياسي بديل

TT

هنالك عدد من المشكلات السياسية والأمنية التي نتجت عن اجتياح القوات الأميركية وغزوها للعراق خلال الشهور الستة الماضية، بنت جداراً من العتمة التي صدمت المواطن العراقي الخارج من نفق الاستبداد والدكتاتورية. وحجبت الرؤية أمام بعض القوى السياسية خصوصاً، تلك التي اختارت العمل تحت ظل سلطة الاحتلال. ووجدت فيه مشروع «الأمر الواقع». وأخذت تعمل وفق مقتضيات تلك السلطة الأجنبية، وغرقت في انشغالات «نصف السلطة»، التي سحبت من تلك القوى بريقها الشعاري السابق، وحولتها إلى جهاز منفذ لرغبات الغير أكثر من تعبيرها عن مطالب الشعب العراقي وأمانيه. وبعد مرور هذه الفترة الزمنية العصيبة، لم يعد التوقف عند تفصيلات تلك المواقف وردود فعلها أمراً نافعاً، مثال ذلك: مشروعية أو عدم مشروعية (مجلس الحكم الانتقالي)، أو طبيعة وأسلوب مقاومة الاحتلال العسكري. بل إن اهتمام اصحاب الشأن السياسي العراقي بتلك التفصيلات، قد يفقد أصحابه قدرة السيطرة على تحديد المخاطر الجدية المحيطة بالبلد، ويضع إمكانياتهم خارج ميادين التأثير بحركة الواقع الراهن. وقد يؤدي ذلك إلى إضعاف وتلاشي مزايا القوى السياسية التاريخية التي تمتعت بها خلال العقود الماضية، سواء في تصديها الباسل للتحديات الخارجية أو صمودها بوجه استبداد وديكتاتورية صدام حسين.

ولكي لا تضيع الفرصة التاريخية التي توفرت أمام العراقيين في تحررهم من الظلم والاستبداد، وتتوقف حركة النضال السياسي بجميع أطيافها وتياراتها عند حدود ما قدمته بعض القوى في خضوعها لمقتضيات سلطة الاحتلال الأجنبي، فإن على هذه القوى، خصوصاً المتحررة من قفص (نصف السلطة)، الاستجابة لمتطلبات اللحظة الراهنة وتحقيق الهدف الوطني الكبير (استعادة حرية العراق وسيادته) ومعاودته مسيرة الحياة السياسية بملامحها الجديدة، ودخول معركة التحدي الديمقراطي بكل مواصفاته. ولكي تتجاوز القوى السياسية العراقية جميعها ما وقع به بعضها من تقديرات ظرفية كبلتها ورهنت إرادتها، لا بدّ بعد ستة أشهر من الاحتلال العسكري للعراق من قراءة الواقع الراهن بعقل سياسي راجح، بعيداً عن النظرة العمومية أو الفئوية الضيقة. والاستناد الى أرضية لا تفرّط في مرتكزات العراق التاريخية، ولا تضحي بآفاقه الديمقراطية الحرة، ووضعه على خط التحضر المدني الانساني. وتحافظ على مكانته في الحاضنة العربية. إن هذه القراءة تبين أن أبرز ملامح هذه اللحظة:

أولاً: حالة الارباك المتواصل لسلطات الاحتلال في التعامل مع العراقيين لأسباب وعوامل عديدة منها، الجهل المطبق بشعب العراق وبتاريخه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولجوء المسؤولين عن الملف العراقي قبل الاجتياح العسكري في تقويماتهم السياسية والأمنية إلى مصادر متعددة من بينها عراقية لم تكن موفقة، إضافة إلى إصرار قوى التطرف بإدارة بوش على تنفيذ برامج يخدم استراتيجيات سياسية لتغيير منطقة الشرق الأوسط من دون اهتمام بأساليب وأدوات التغيير وطرائقها.

ثانيا: الغموض الأميركي في اختيار مفاتيح «نقل السلطة» إلى العراقيين من حيث توقيتها وأدواتها والأرضية العقائدية التي تستند اليها. مما شرّع الأبواب أمام رياح الفوضى والارباك السياسي التي يعيشها مجلس الحكم العراقي كعتبة عابرة لسلطة الاحتلال أمام العراقيين، الذين لم يتوافقوا لحد الآن على رؤية سياسية موحدة.

ثالثا: استثمار ظروف وملابسات ضعف النظام السياسي العربي، خصوصاً في عجزه عن حل قضية العرب الأولى (النزاع الفلسطيني الإسرائيلي)، وموقفه المتردد وغير الحاسم وغير الملبي لعواطف ومشاعر الشعب العراقي من دكتاتورية صدام حتى لحظات سقوطه الأخيرة، لتصعيد دعوات تكريس عزل العراق عن حاضنته العربية، وبما يؤدي إلى تكريس سياسة تغييب هويته العروبية نهائياً.

رابعا: التسابق المحموم في شراكة مريبة داخلية عراقية وخارجية لتفكيك هيكل الاقتصاد العراقي الصناعي والزراعي والخدمي، الذي استند الى قاعدة ريع دولة العراق لمدة ثمانين عاماً، ونهب لحمه، وبيعه بثمن بخس في سوق (الهرج ـ الخردة) وبذلك تتآكل وتتلاشى، بصورة نهائية، البنية التحتية لهذا البلد وتمنع أية فرصة لنموه وفق أدنى حدود التطور والتقدم.

صحيح أن الاحتلال الاجنبي هو المحور الرئيسي للأزمة السياسية العراقية الحالية، لكن الدعوة للتخلص منه وإعادة البلد إلى أهله لمواصلة مسيرة عهده الجديد، لا تتم على إيقاع الشعارات العنترية والفوضى السياسية، التي قد تؤدي إلى صراعات هامشية تقود إلى تداعيات أمنية وسياسية خطيرة بين أبناء الشعب الواحد . كما أن من أبرز تعقيدات هذه الأزمة دخول أطراف مهمة من القوى السياسية العراقية في شراكة تنفيذية لسلطة الاحتلال، تقابلها حركة واسعة ومتنامية للقوى السياسية التي كشفت عن نفسها وقابلياتها خلال الشهور الستة الماضية، على الرغم من النقص الواضح في الاحتراف السياسي لبعضها. وقد تكون من بين أهم مسببات انغلاق القوى داخل المجلس عما يدور حولها، هو القلق غير المبرر، على مكاسبها من أي مشروع عراقي يضم جميع القوى والحركات العراقية. ولهذا فإن أولى شروط إدارة اللعبة أن يكون هناك إطار عام لمشروع سياسي يوفر الحد الأدني من متطلبات المرحلة بشروط ومستلزمات ومستحقات واضحة يتحقق حوله إجماع سياسي عام. ومن أهم هذه المتطلبات العاجلة:

أولاً: دعوة القوى والأحزاب السياسية العراقية لمؤتمر وطني عراقي عام من دون وصاية إقليمية أو دولية. عبر لجنة تحضيرية تمثل فيها جميع القوى والأحزاب والهيئات السياسية والدينية ومن ضمنها القوى داخل مجلس الحكم، تبتعد عن التوزيع الطائفي والعراقي، وتحت شعار (العراق لجميع العراقيين). يضع هذا المؤتمر ميثاقاً وطنياً وبرنامجاً سياسياً واضحاً يحدد أهدافه المرحلية. وينتخب هيئة قيادية ومجلساً تشريعياً بمثابة «البرلمان الانتقالي»، ينتهي عنده مجلس الحكم الحالي ووزارته، ويواصل ممارسة مسؤولياته السياسية لحين انتخاب حكومة وطنية عراقية في ظل الدولة المستقلة.

ثانيا: تعين الهيئة القيادية للمؤتمر التأسيسي العراقي من بين أعضائها (لجنة علاقات مع سلطة الاحتلال)، تتفاوض وتتحاور معها في شؤون العراق الأمنية والسياسية والاقتصادية، والاتقاق على البرنامج الزمني لإنهاء احتلال البلد.

ثالثا: ثروات العراق وحقوق مواطنيه المدنية والدستورية أمانة ومسؤولية لا يجوز التصرف بها إلا بعد وجود دولة عراقية ذات سيادة ونظام ومؤسسات.

رابعا: يشكل المؤتمر التأسيسي من بين أعضائه لجاناً خاصة لصياغة الدستور، ووضع قوانين الانتخابات والأحزاب والصحافة الحرة.

خامسا: الابتعاد عن كل ما يمس هوية العراق التاريخية أو يجرح قيم ومشاعر أبنائه الدينية والروحية، ويعتدي على حرية افراده وطقوسهم الفردية.

سادسا: الدعوة العامة وعبر وسائل الاعلام المختلفة إلى التسامح والسلم الأهلي، ومحاربة النزعات الثأرية، وتوفير وسائل الأمن والاستقرار للمواطنين وإعادة حقوقهم وخدماتهم المدنية.

* سفير عراقي سابق مقيم في لندن