كيف حال الأمة إذن؟

TT

قبل ان تقدمه الفضائية العربية اخيرا لم أكن أعرف عنه الا ناشطا سياسيا بدأت اسمع عنه في السنوات الاخيرة مناصرا لنظام صدام حسين البائد ومدافعا عنه وزائرا مثابرا لبغداد لإظهار التضامن مع حاكمها المستبد.

وما كان هذا الرجل ليثير فضولي هذه المرة لو لم تقدمه الفضائية العربية على انه «مفكر وسياسي عربي». قلت لنفسي ان استغل الفرصة لأتعرف عن كثب على هذا «المفكر» علّي اكتشف سر سقوط بعض المفكرين في هوّة تأييد الدكتاتوريين وانحدارهم الى مستوى القبول بوحشية الحكام الهمجيين من امثال صدام حسين، بل تسويقها ايضا.

اطلالة هذا «المفكر» على الفضائية كانت بمناسبة ما اشيع عن قيام القوات الاميركية في بغداد بهدم قبر ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث) وتسويته بالأرض وتحطيم تمثاله.

لم يظهر «المفكر والسياسي» الفضائي مفكرا عندما سأله المذيع عن رأيه في ما قيل انه حدث في العاصمة العراقية. فقد كان سياسيا بامتياز ولكن من الدرجة الثالثة في افضل الاحوال.. أرغى وأزبد وشتم أميركا والاميركيين... والعراقيين معهم، واعتبر ان الفعلة الاميركية تثبت وتؤكد وتعزز كل آرائه ونظرياته ومواقفه عن أميركا وحرب العراق وأهدافها.

كان يتحدث ليس فقط بحماسة منقطعة النظير وعصبية منفلتة العقال وانما ايضا بيقينية راسخة لا تقبل النفي والدحض ولا يأتيها الباطل لا من جهة اليمين ولا من جهة اليسار.

في المقابل كان المتحدث الثاني الذي استضافته الفضائية الى جانب «المفكر والسياسي» شابا عراقيا (مدرس جامعي) لا بد انه احد عشرات الالاف الذين اضطرتهم وحشية صدام الى الفرار من بلده واللجوء الى بريطانيا. ولو كان لـ«المفكر» الفضائي اي قدرة وقابلية على التفكر والتفكير لتعلم درسا ثمينا من هذا الفتى العراقي الحكيم الذي أجاب على اسئلة المذيع بجمل قصيرة ولغة رصينة لا اسفاف فيها ولا شعارات، وبالقول غير مرة: اذا صح الخبر.. اذا صدقت المعلومات.. اذا كان ذلك صحيحا فانه أمر غير مقبول.. غير مبرر.. غير قابل للدفاع عنه، متوقعا الا يذرف احد من العراقيين الدمع على عفلق أو الشعور بالأسى على مصيره، عارضا وجهة نظره عن شراكة عفلق لصدام في ما حدث للعراق من مصائب.

بقية الحكاية اصبحت معروفة للجميع الآن. فما تحدث عنه «المفكر والسياسي» الفضائي بكل اليقين وما استغله للطعن بسكاكينه يمينا ويسارا لم يكن غير كذبة ملفقة جملة وتفصيلا لم يستطع عقل «المفكر والسياسي» ان يتحوّط لها وهو يتحدث الى ملايين الناس مثلما فعل المدرس الجامعي العراقي الشاب.. فقبر عفلق وتمثاله ما زالا قائمين في قلب بغداد.. والواقع ان الاميركيين ـ كما قال الاستاذ فوزي كريم ـ انما وفروا الحماية للقبر والتمثال من غير المفكرين من العراقيين.

لست راغبا في تكرار ما كتبه زملاء متسائلين عن سر صدمة بعض العرب ـ وهم في الغالب ممن تقدمهم وسائل الاعلام العربية باعتبارهم مفكرين وسياسيين ـ واحتجاجهم الصاخب على ما قيل انه تهديم لقبر عفلق (وهو أمر لو كان قد صحّ لاستحق بجدارة الاستهجان والتنديد) فيما هم لزموا ـ وما زالوا رغم ظهور الكثير من الحقائق والوقائع ـ الصمت حيال قضية المجازر الجماعية والمقابر الجماعية في عهد صدام وعفلق التي كان ضحاياها بمئات الآلاف من البشر الأحياء لا الأموات! لكنني فقط اتساءل عن المعايير والمقاييس التي اعتمدتها الفضائية العربية لتقديم من تحدثت اليه باعتباره مفكرا. أشعر ان هذه الفضائية غشّتني وغشّت كل مشاهديها باعلان شخص ما «مفكرا» وهو لا علاقة له من قريب أو بعيد بعالم الفكر الرصين والمتزن.

إذا كانت هذه هي حال مفكري هذه الامة، فكيف هي حال أبنائها العاديين؟ بل كيف هي حال الأمة نفسها؟