أهو تعليم أم حضانة طويلة الأمد ؟

TT

قرأت قولة مثيرة صرح بها الباحث والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في مقابلة معه، ووجدت نفسي، هنا، غير قادرة على التغاضي عنها وأنا أتحدث عن موضوع التعليم في وطننا العربي، يقول إيكو «... هل تعرفان مصطلح الحضانة؟ حسن انه يعني الفترة التي يعيش خلالها الحيوان تحت حماية الأبوين، فللقطط مثلا فترة «حضانة» تستغرق ثلاثة أشهر تقريبا، تقوم الأم خلالها بإطعام الهرير وحمايته، ولكن بعد ثلاثة أشهر يكون الهرير قد أصبح قطا، ويدخل العالم قطا محترفا. في المجتمعات القبلية تستغرق فترة الحضانة ست عشرة سنة يدخل بعدها الشبان والشابات طقوس استهلال الحياة».

هكذا، إذن، يبدو التعليم في وطننا العربي بمثابة «حضانة» طويلة الأمد، حضانة سلبية، فاترة، منغلقة على الذات، تفتقد إلى كل الأسئلة النقدية الكفيلة بإعادة التفكير في الذات وفي الوجود، حضانة يتبادل فيها كل من البيت والمدرسة والشارع الأدوار، في علاقات تسلطية قمعية لا تكف عن ترداد الأوامر والنواهي، والتهويل والتخويف وخلق عوالم خرافية تجعل وجود الطفل وشخصيته مرتبطين بفكر غيبي يتحكم في مصيره وفي مستقبله. هي، أيضا، «حضانة» في اتجاه عمودي بين أب صارم يحلم بضمان مستقبل ابنه الفردي والعائلي وابن يجعل من التعليم أداة نفعية.. وأمام تفشي ظاهرة البطالة، ينمو لدى الابن الإحساس بلا جدوى التعليم، وهي أيضا علاقة عمودية بين معلم لا يقبل النقاش ومتعلم لا حول له ولا قوة في قاعات درس، هي، أحيانا، أشبه بالمعتقل، يغدو فيها الزمن بطيئا ومزعجا أشبه بقطرات الماء، تلك التي تقض مضجع المعتقل في ليلته الموحشة، ويغدو فيها المعلم أشبه بالسجان، يحلم باقتناص فرصة ضبط الخارجين عن «النص»، لينزل بسوط الصفر، بحيث لا تنفرج أسارير وجهه إلا عند ورقة تمتلك قدرة الحفظ والتذكر، حفظ «معرفة» فارغة من كل عملية بحث واستكشاف، معبأة في نصوص جامدة لا تتغيا سوى النقش على حجر الذاكرة.

وبين كلتا الحضانتين، وأعني الحضانة الأسرية والحضانة المدرسية، غالبا ما تنعدم كل جسور التواصل، لكن ما يتم الاتفاق بشأنه والتوحد في ترداده، هنا، هو مقولات من قبيل «افعل ما طلبت منك.. وكفى من الأسئلة»، إلخ.

تبقى «الحضانة» العربية، إذن، طويلة الأمد، وعلى امتداد زمنها تشل طاقات إبداعية على كراسي جامدة، وحين تود هذه الطاقات الانفلات من شللها المصطنع، تمسك بتلابيب الماضي في حالة من النشوة والخيلاء، حركة ضرورية لاكتشاف الأصول وتعميق الانتماء، والاعتراف بالهوية، لكن حبذا لو كانت حركة في حدود المعقول. هكذا، إذن، استسغت كلمة «حضانة» التي استعملها امبرتو إيكو، عوض كلمة التعليم، لأنه غالبا ما تكون نتيجة هذا التعليم طفلا في مقتبل العمر، مطيعا، لا يفكر في الشغب، غير مزعج تماما كما تخيلته «السلطة»، بعقلية شبه مشلولة غير قادرة على النقد، قوامها الامتثال والخنوع، حيث تنعدم لديه روح المبادرة، فيستكين للتبعية السلبية، ويبدو غير قادر على المواجهة أو إبداء الرأي، ولاحتى على اختيار مرشح دائرته أو عمدة مدينته بكل وعي ومسؤولية، وبالتالي غير قادر على التمييز بين الإسلام الحقيقي وبين التطرف، وينجرف بسهولة في دوران الآلة الاستهلاكية، وينساق انسياق الأعمى وراء الأفكار المستوردة.

لا يمكن أن نستثني المغرب، هنا، من هذه المنظومة التعليمية التقليدية، لكن هذه السنة (2003) كان الدخول المدرسي يحمل بشارة خير لمستقبل أفضل، حيث شهدت الخريطة التعليمية تغييرات وبوادر إصلاح عديدة. إصلاح يأتي بعد مرور أربع سنوات على تدشين ورش إصلاح سيمتد على العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، والذي يستقي مفاهيمه الإجرائية من مقتضيات «الميثاق الوطني للتربية والتكوين»، هذا الميثاق الذي ارتكز على مفاهيم لخصها الباحث اللغوي المغربي الدكتور عبد القادرالفاسي الفهري في «..الجودة والتفرد والإقدار على المبادرة والتنافس، والتمهين، والتجذر الهوي والتاريخي، والتوطين، وتأكيد البعد الكوني للمعرفة والثقافة والتقانة، والإشراك واللامركزية، والشراكة، والاستقلالية الذاتية والتقييم والمحاسبة، إلخ». (عن كتابه «اللغة والبيئة»). خلاصة الأمر أن هذا الإصلاح جاء ليؤكد على ضرورة صياغة أدوار المؤسسة التعليمية المغربية بشكل يساهم في بلورة المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، وخصوصا بعد أحداث 16 مايو، تلك التي تؤرخ للأحداث الإرهابية الوحشية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء، والتي أتصورها أشبه بأحداث 11 سبتمبر الشهيرة، ليس في حجم الحدث أو في جنسية مرتكبيه، ولكن في كونه أصبح بمثابة حد فاصل بين مرحلتين من تاريخ المغرب الحديث، الأمر الذي استوجب إعادة التفكير في مستقبل المغرب السياسي والثقافي والمجتمعي، فلا أحد يمكنه أن ينسى ذلك الجو الهستيري المحموم الذي خلقته تلك الأحداث داخل المجتمع المغربي، حين اخترقته ثقافة الانتحار بكل وقاحة، واقتحم العنف حرمته الهادئة المتسامحة، وتم تحويل أجساد طرية ونفوس طيعة إلى قنابل بشرية لقتل نفوس بغير حق، فكان لا بد من جعل هذه الأجساد جبالا صلدة تقف ضد كل أشكال العنف والتطرف.. وهكذا تم التركيز على الإصلاح البيداغوجي، حيث تم تبني أهداف حداثية تليق بالمغرب الجديد المنفتح والمبني على التعددية، والعمل على جعل شخصية المتعلم شخصية متوازنة، تعتمد الفكر النقدي العقلاني. وفي هذا الإطار، تم إدخال مواد جديدة، كالتربية على حقوق الإنسان، والتربية على المواطنة، كما تم إدماج الأمازيغية سعيا لتعميق الإحساس بالاندماج الثقافي لدى المواطن المغربي، ولجعل المواطن المغربي على علم بمكونات الوطن الثقافية، وبالتالي جعله أكثر مرونة حيال التعدد اللغوي والثقافي الذي يعيشه المغرب، بعيدا عن أي إحساس بالتفرقة والعنصرية، إلى جانب إدماج الإعلاميات قصد استيعاب إنتاجات الفكر الإنساني وفهم التحولات الطارئة في العالم المعاصر، وتم فرض الفلسفة كمادة أساسية على جميع الشعب في مرحلة التعليم الثانوي. ففي غياب الفلسفة يغيب كل فضاء للنقد والمناقشة وإبداء الرأي والاختلاف والحوار. وبغيابها أيضا يغدو فضاء التعليم مرتعا خصبا لكل مظاهر التطرف، وفي هذا الإطار يقول محمد عابد الجابري: «.. ونحن إذا تأملنا الساحة الطلابية في المغرب، كما في العالم العربي عموما، فإننا سنجد التطرف أكثر انتشارا في الكليات العلمية، التي لا تدرس فيها لا الفلسفة ولا العلوم الإسلامية

وسعيا لتحقيق المساواة بين المتعلمين وتعميق الإحساس بالانتماء للمحيط المدرسي، عملت الوزارة على فرض نظام الزي الموحد، لمحاربة بعض الحالات الشاذة التي تشوش على التكوين السوي للمتعلم، مشروع تعمل فرنسا على فرضه على مدارسها الآن، كما أنه تقليد يسود أغلب المؤسسات التعليمية في بريطانيا، وهي التفاتة ذكية أتت في أوانها بسبب الأزمة الخانقة التي تعيشها المدرسة، بسبب الفوارق الاجتماعية القائمة بين التلاميذ، مما يولد ما يسميه فرويد بالصدمة القائمة بين الذات والمجال الاجتماعي. كما أنها التفاتة تركز على المتعلم بالدرجة الأولى الذي عادة ما يكون ضحية الإقصاء والتهميش الذي تكرسه المدرسة في جميع تمظهراتها».

ولتعميم التمدرس، وأيضا بهدف الاحتفاظ بالتلاميذ أكثر ما يمكن داخل النظام التعليمي، سعت الوزارة إلى إرجاع المفصولين والمنقطعين عن الدراسة، كما يتم نهج سياسة تشجيع التمدرس في العالم القروي تفاديا لمركزية التعليم في المدن، وبالتالي تفادي ذلك التصنيف الذي وضعه الاستعمار الفرنسي سابقا، ولو في سياق مغاير لهذا، بين مغرب نافع ومغرب غير نافع.

فالتعليم اليوم في ظل العولمة، عليه أن يضطلع بمهام جديدة، لفك شفرات العالم المعاصر المعقدة. كما أن على الجهات المسؤولة أن توجه التعليم نحو آفاق وتخصصات جديدة للحد من ظاهرة البطالة التي استفحلت، اليوم، بشكل خطير، محذرة من عواقب المستقبل الذي لا يمكن السيطرة عليه ما لم ينتبه المسؤولون للتحولات الطارئة وسريعة الإيقاع في العالم، بل إنه أصبح مطالبا من التعليم اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إذابة جليد اليأس واللاجدوى الذي أصبح يلف نفوس الشباب ويفقدهم كل قدرة على التثقيف والتعلم والمعرفة.

* كاتبة مغربية