انطباعات من الرياض (1)

TT

من نافذة الغرفة في الطابق الثلاثين في «الفور سيزنس»، تبدو الرياض في المساء مثل بادية من الاضواء التي لا نهاية لها. وفي الاسفل، يبدو السوق التجاري في مجمَّع «المملكة» مثل «هارودس» حديثاً واكبر مساحة بكثير. واذ أتأمل الرياض من كل الجهات عندما افيق وقبل ان اذهب الى النوم، اعود بذاكرتي مرغماً الى الغرفة الثقيلة الجو في فندق «اليمامة» الذي كان في وسط المدينة (هو والمطار) يوم كانت تضم نحو مليون انسان. الآن 4.5 مليون. لم نكن نرى من نافذة «اليمامة» سوى حديقته. وكنت كلما صعدت الى الغرفة اخشى شيئاً واحداً، وهو التعرق من الحر، بينما صوت المكيف يعلو مدعياً، او مذكراً، بأنه هناك: قطعة ثقيلة من الحديد في قلب الجدار، تنضح هي الاخرى ماء او عرقاً. والآن، في هذا البرج المرتفع مسافة اقلاع طائرة، المكيف «مركزي» يبرّد كل هذه المساحات الهائلة بدون ضجيج.

لا مجال للمقارنة، لأن الارقام والنسب والشواهد تفقد معناها، الا من حيث الذكريات والرومانسيات. ولكن ثمة استعدادات ضرورية قبل الدخول في هذه الحلقات الانطباعية عن رحلة مختصرة. وحافلة. فقبل اربعين عاماً، كانت نسبة الكفاية في السعودية اقل بكثير مما هي اليوم. وكان عدد الميسورين ادنى بكثير جداً مما هو اليوم. وكانت العناية الاجتماعية والصحية والتربوية في اوائل مراحلها. ولكن يومها لم يكن هناك وجود او اثر تقريباً، للجدل الاجتماعي القائم اليوم. ولا للقضايا الاقتصادية المطروحة بالحاح في الصحف والرسوم الكاريكاتورية والجلسات الاجتماعية. وذلك المواطن الذي كان الاكثر امنا واطمئناناً في العالم، يطرح الآن في مجالسه اسئلة تعبر عن قلقه الخارجي وعن قلقه الداخلي، وفجأة ادرك انه مثل جميع مواطني دول الارض، له مخاوف خارجية وله مخاوف وهموم داخلية، وانه غير قادر على الفصل بين طبيعة هذه المخاوف، هل هي واحدة؟

ثمة تاريخ او عنوان قلب كل شيء في حياة السعودي هو 11 سبتمبر (ايلول)، فقبل ذلك التاريخ كان «مواطن شرف» في مطارات العالم. لا يحتاج الى تأشيرة دخول في معظم دول الكون. والآخرون يسعون الى اجتذابه ودعوته فيما هو يتدلل. وكان العرب الآخرون يقفون أذلاء في الطوابير امام ابواب القنصليات لكي يحصلوا على اذن زيارة او مرور، فيما كان هو يتوقع ان يختم المأمورون جوازه بمجرد ان يلمحوا غلافه الاخضر. انه مواطن مأمون مضمون مائة في المائة. يحمل معه المال والتهذيب والشعور بالمسؤولية ولا يترك خلفه المشاكل. ثم فجأة كان 11 سبتمبر. واذا بالابراج العالية تهوي في نيويورك. وصور المطلوبين تنتشر في صحف العالم. ومدارس الطيران تغلق في وجه العرب و«الملامح الشرق اوسطية». واذا بالطلاب السعوديين يبعدون او يرفضون. واذا بالولايات المتحدة تتحول من حليف تقليدي قديم الى مصدر للحملات اليومية على الدولة السعودية واهلها وانظمتها التربوية وعاداتها وكل شيء فيها. وبعد ذلك خرج الاميركيون عملياً من الارض السعودية واغلقوا قواعدهم فيها، لكن ما ان خرجوا حتى بدأت حملة من التفجيرات التي كانت ذريعتها في الماضي الوجود العسكري الاميركي. ماذا يجري اذن؟ مَن حليف مَن في هذا الجو الغامض الجديد؟ ولماذا تأتي الاشياء مرة واحدة؟ واين هم السعوديون حقاً، من هذه الحالة المربكة التي لم يعتادوها من قبل؟

والى اللقاء.