المؤامرة بالمقترحات الأميركية

TT

تُخيم أزمة حادة على البيت الأبيض لفشل مقترحات السلام الأخيرة التي تقدم بها الرئيس الأميركي بل كلينتون في آخر أيامه السياسية من دون أن يعبأ بتهديداته برفع يده عن قضية السلام في الشرق الأوسط إذا لم يقبل الطرفان هذه المقترحات من دون قيد أو شرط، فالجانب الفلسطيني أخذ يستفسر عن نقاط غمّت عليه معانيها ومراميها في الاقتراح الأميركي، والجانب الإسرائيلي أخذ يوافق ويعترض على الاقتراح الأميركي السلمي ليخرج نفسه من مأزق السيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى وعودة اللاجئين إلى الوطن الفلسطيني.

قابلت واشنطن الموقفين بمسلك سياسي غير نزيه، يفرق بين الفلسطينيين الذين طلب منهم الموافقة أولا على المقترحات السلمية من دون مناقشة، وامتنع البيت الأبيض عن الإجابة على استفساراتهم، والإسرائيليين الذين لم يطلب منهم ما طلب من الفلسطينيين الموافقة غير المشروطة على المقترحات، واكتفى الناطق باسم البيت الأبيض جاك سيوارت بالقول «لا يوجد تعليق عند البيت الأبيض على المطالب الإسرائيلية».

يبرهن عدم التعليق الأميركي على المطالب الإسرائيلية، على وجود اتفاق سري بين واشنطن وتل أبيب يهدف إلى التلاعب بالحقوق الفلسطينية في السيادة على القدس، وفي عودة اللاجئين، وافقت إسرائيل على الاقتراح الأميركي عندما كانت هناك مفاوضات سرية دائرة في نيويورك تهدف إلى إبقاء القدس تحت السيادة الإسرائيلية وتمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، فلما فشلت هذه المفاوضات السرية سارعت إسرائيل لتؤكد بصورة علنية معارضتها للسيادة الفلسطينية على القدس أو السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى الوطن الفلسطيني بعد الاتفاق على قيامه. وحتى تتكامل أركان المؤامرة، رفضت أميركا التعليق على الموقف الإسرائيلي الذي انتقل من الموافقة إلى الرفض ليدلل البيت الأبيض بعدم تعليقه على موافقته على هذا التناقض الحاد في الموقف الإسرائيلي من المقترحات الأميركية.

واضح أن الدور الأميركي يمارس اليوم أكبر لعبة خداع سياسي ترمي إلى ضمان حقوق باطلة للإسرائيليين عن طريق توقيع الفلسطينيين عليها، وتترك الحقوق الفلسطينية من دون ضمان لها ليتم الاتفاق عليها من خلال التفاوض اللاحق الذي سيدور داخل آفاق محدودة تكسب إسرائيل المرونة لتمتلك القدرة على إعطاء ما تريد ومنع ما لا ترغب في إعادته، وتفرض الجمود على الفلسطينيين ليفتقدوا القدرة على رفض ما يعطى لهم من تلك الحقوق، والتنازل القهري عن بقية الحقوق التي تحجبها عنهم إسرائيل.

لا نغالي لو قلنا بأن مقترحات بل كلينتون الأخيرة تمثل صياغة جديدة للمقترحات التي قدمتها أميركا نيابة عن إسرائيل في كامب ديفيد الثانية ورفضها الفلسطينيون لجورها وابتعادها عن الحق، وتريد واشنطن اليوم الحصول على موافقتهم عليها بالإذعان من خلال التمثيلية الهزلية التي يقوم ببطولتها بل كلينتون في آخر مشهد له على مسرح البيت الأبيض، ويحاول أن يقول بموقفه المتصلب المصطنع بأن مقترحاته السلمية هي الفرصة الأخيرة للفلسطينيين، إما أن يحصلوا بها على وطنهم، وإما أن يفقدوا معها هذا الوطن إلى الأبد من بعد خروجه بلا عودة من البيت الأبيض.

يذكرنا هذا الموقف من بل كلينتون قبل رحيله النهائي من الحكم والمتمثل في محاولة «قتل الشعب الفلسطيني والمشي في جنازته»، بموقف الامبراطور الروماني المجنون نيرون حارق روما بالناس فيها، الذي أخذ يبكي بحرقة بعد طعنه من أحد الفارين من حريق روما، فلما اقترب منه أحد خاصته وأخذ يلومه على بكائه خوفا من الموت وهو الرجل الشجاع المغوار، ردّ عليه بأنه لا يبكي على موته إنما يبكي على الناس الذين لن يجدوا من يحكمهم من بعده.

بكاء بل كلينتون في أروقة البيت الأبيض على فشله في خداع الفلسطينيين اليوم والعرب غداً، بالمقترحات السلمية التي تقدم بها وهو في حالة «النزاع» السياسي، يجعلنا نقفز من العهد الروماني القديم إلى مطلع القرن العشرين لنراه يحاول تكرار ما فعلته بريطانيا مع العرب في أثناء الحرب العالمية الأولى بالوعود الكاذبة لهم التي تعطيهم الاستقلال إذا حاربوا إلى جانب بريطانيا ضد الأتراك، في الوقت الذي أبرمت في الخفاء اتفاقية سرية «سايكس بيكو»، تقضي بتقسيم أرض «الرجل المريض» الدولة العلية العثمانية، بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية، وفضح خداع بريطانيا للعرب وعد بلفور في يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917، بإعطاء اليهود الوطن القومي لهم في ارض فلسطين ولم ينتبه العرب لهذا التناقض مع الوعد بإعطائهم الاستقلال، وكشفت الثورة البلشفية في يوم 7 نوفمبر عام 1917 المؤامرة الدولية على العرب بنشر اتفاقية سايكس بيكو، ولم يتمكن العرب، بعد فوات الأوان، من الخروج من الحرب التي تورطوا فيها مع بريطانيا في عام 1916. وأدت التقسيمات للأرض العربية بين فرنسا وبريطانيا التي حصلت على فلسطين لتنفيذ وعدها لليهود إلى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في عام 1948.

يدرك الفلسطينيون اليوم أن المقترحات السلمية الأميركية الأخيرة تمثل الانتداب الأميركي على الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، وبالتالي لا يمكن القبول بها منهم لأنهم يؤمنون «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» فلدغة بريطانيا لهم في الماضي، تجعلهم يحترسون من محاولة أميركا لدغهم في الحاضر، خصوصا أن اللدغة الأميركية تهدف إلى تثبيت ايهود باراك في السلطة بإسرائيل عن طريق إعادة انتخابه مرة ثانية في فبراير (شباط) عام 2001، من دون أن تراعى التيارات السياسية الحزبية والشعبية التي تعارض بقاءه في الحكم وتطالب بخروجه من السلطة، وهو اتجاه يتعارض مع المصالح الأميركية لأن فوز اريل شارون برئاسة الوزارة ووصول حزب تجمع الليكود إلى السلطة سيقضي على السلام في الشرق الأوسط الذي يمثل إحدى دعائم الاستراتيجية الأميركية بالعالم في المرحلة الحالية وتزداد أهميتها في المرحلة المقبلة عند الوصول إلى عصر العولمة.

التخطيط المشترك للسلطتين الآفلتين في واشنطن وتل أبيب يسعى إلى الوصول للسلام مع الفلسطينيين لأنه يحقق النصر لرئيس الوزارة المستقيل ايهود باراك في الانتخابات الشعبية التي تتم خلال شهر فبراير المقبل، ويعطي بقاؤه في السلطة أرضية واسعة للتحرك السياسي الأميركي من قبل السلطة الجديدة التي يمثلها الرئيس المنتخب جورج بوش الابن الذي اختار بل كلينتون ليواصل الوساطة السلمية نيابة عنه في منطقة الشرق الأوسط على المسارين الفلسطيني والسوري. يدحض هذا التخطيط، الواقع القائم في داخل إسرائيل الذي يميل إلى حزب تجمع الليكود بعد فقدان الثقة في حزب العمل وتتضح معالم هذا الاتجاه من الدور الذي يقوم به دان ميريدور زعيم كتلة شاحاك الرامي إلى الالتحاق بحزب تجمع الليكود في انتخابات رئاسة الوزارة المقبلة، يزيد من فعالية هذا الدور رفض العرب الإسرائيليين، واليهود الروس الوقوف إلى جانب ايهود باراك، وإعطاء أصواتهم إلى اريل شارون رئيس حزب تجمع الليكود اليميني المتطرف وتتعاطف معه الحركات والأحزاب الدينية المتعصبة لاتفاقهما على ضرورة طرد الفلسطينيين والاحتفاظ بكل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 تحت السيادة المطلقة الإسرائيلية.

لجأ ايهود باراك إلى التهديد في سبيل اكتساب الرأي العام الإسرائيلي الذي يخشى الموت، بتأكيده أن أمام الناخب الإسرائيلي في فبراير المقبل اختيارين لا ثالث لهما، اما اعادة انتخابه للوصول إلى السلام واما مواجهة الحرب مع الفلسطينيين والعرب كافة باختيار اريل شارون لرئاسة الوزارة المقبلة، وحتى يثبت ذلك عمل على تصعيد القتال مع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في ظل الفراغ السياسي الذي تعيشه اليوم اسرائيل واستغلته أميركا بتكثيف الاتصال اما بنفسها، واما بواسطة اصدقائها من الدول لاقناع السلطة الوطنية بمقترحات بل كلينتون حتى تستمر مسيرة السلام بعيدا عن التعصب الديني والتطرف اليميني، غير أن قيادات الانتفاضة الشعبية الفلسطينية رفضوا تماماً المنطق الأميركي الذي يدعو إلى الميل لجانب إعادة انتخاب ايهود باراك لأنه في نظر الشارع الفلسطيني مجرم حرب كغيره من القيادات الإسرائيلية وصعّدوا أعمالهم النضالية لإغلاق أبواب التفاهم بين أميركا صاحبة الاقتراح، والسلطة الوطنية الفلسطينية الواقعة تحت الضغط، وتمكنوا من قتل أحد رموز التعصب الديني بنيامين كاهانا ابن مؤسس حركة كاخ العنصرية مائير كاهانا الذي اغتيل في نيويورك عام 1990، ردود الفعل العنيفة على قتل بنيامين كاهانا التي جاءت في شكل قتل الفلسطينيين لم تلغ حالة الفزع السائدة في داخل اسرائيل بعد أن اتخذ النضال الشعبي الفلسطيني الاتجاه الرامي إلى قتل رموز إسرائيل الذين يعارضون من مواقعهم في السلطة أو من مراكزهم في النفوذ تحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال الاسرائيلي وهو في حقيقته منحى نضالي يجعل كل من يصل إلى السلطة أو يتمتع بالنفوذ يفكر مرتين قبل أن يقف ضد المطالب الفلسطينية.