«القمم الخليجية: وفي التوازن يكمن الحل»

TT

ربما كانت مقولة لافونتين (كل مقدرة لا تتحد مع غيرها، تكون ضعيفة)، تعكس الحقيقة الماثلة للعيان في ثبات وصمود كيان مجلس التعاون الخليجي منذ عام 1981 الى هذه اللحظة، وها هي قمة المنامة تجسد منحى هذا المفهوم، لا سيما في عالم جديد بات واقعه يتشكل ويتلون حسب ما تفرضه العولمة من متغيرات وتأثيرات.

ولذلك صار لمفهوم الكتلة أو التكتل مكانة وبروزا وثقلا في الساحة الدولية التي لم تلبث ان افرزت تحديات، مما لم يعد بإمكان أي دولة بمفردها ان تصمد امام وتيرة التحولات وشروط التكتلات دولا كانت ام شركات متعددة الجنسيات.

على ان من الطبيعي ان تطفو هذه الكتل الجديدة على السطح ضمن معطيات ومعايير بما يضمن لها قدرة الاستمرار في عالم لا يعرف الثبات، فكان عليها ان تنسلخ من قوقعة الايديولوجيات ومفهوم القوميات في القرن الفائت لتدلف الى مفاهيم متغيرة وعصر جديد يؤمن ان القدرة والتميز والاستمرار لا تتأتى إلا من الاقتصاد، ولا شيء غير الاقتصاد، ومن هنا (أي لحظة تحقيق التكامل الاقتصادي) يمكن من خلاله ترجمة الامور الأخرى التي لا تقل اهميتها عن الاقتصاد (السياسية والثقافية وما الى ذلك من امور)، كما في التكتلات الاسيوية والاوروبية وغيرها.

وحين الحديث عن قمة المنامة التي استضافت الدورة الواحدة والعشرين للمجلس الاعلى لدول الخليج العربي، كان الهاجس الاقتصادي هو المهيمن على القمة، ويبدو ان الرغبة جادة في تكريس هذا المفهوم واخراجه الى ارض الواقع بتفعيله وتطبيقه من أجل اعطاء هذا المجلس دفعة قوية الى الامام، ومحاولة مجاراة التسارع العولمي وتأثيره على مسيرة التعاون الاقتصادي لهذه الدول مع دول العالم فضلا عن تعاونها مع بعضها بعضا.

غير ان الاشكالية لا تتعلق بهذه القمة أو تلك، بقدر ما ان القضية تدور حول انجازات مجلس التعاون الخليجي وتقييمها وما اذا كانت اقل من المأمول. والحقيقة ان طرحا كهذا، يمكن ايجاد الاجابة الشافية له عند المواطن الخليجي، وبعيدا عن نغمة الاعلام الرسمي واوراق وابحاث الاكاديميين، وبعيدا ايضا عن العاطفة والوجدان والحماس الوطني، نجد ان المواطن الخليجي (العادي) هو الوحيد الذي بإمكانه ان يقوم انجازات المجلس بموضوعية وبحياد، كونه هو الذي يلامس ويعايش قرارات القمم السابقة أو اللاحقة (أو هكذا يفترض) لأن من اهداف المجلس التي انشئ من أجلها هو تحقيق طموحات وآمال المواطن الخليجي (من تضامن وتوحيد القوانين وتوثيق الروابط ودفع عجلة التنمية... الخ).

ولعل الاستطلاع الذي اجرته «الشرق الأوسط» في عددها 8067 يكشف جانبا مهما ورؤية مثيرة للجدل، افصح عنها المشاركون (عينة عشوائية) تتعلق بتأييدهم لبقاء المجلس من عدمه، ومدى مساهمته في تحقيق طموحات وآمال ابناء الخليج فضلا عن تطلعاتهم المنشودة. فقد عبر %42 من المشاركين عن ان توصيات القمم الخليجية عادة ما تكون دون المستوى المطلوب واعتبر %46 ممن شاركوا في الاستطلاع ان مجلس التعاون لم يحقق الطموحات والآمال المنشودة منه، ورأى %39.3 ان اخبار وانجازات المجلس ليست مهمة حتى تتم متابعتها، وعزا اكثر من %10 من الرافضين لبقاء المجلس رفضهم الى جملة مبررات اهمها عدم وجود نتائج ملموسة للمجلس تمس اهتمامات المواطن الخليجي وعدم تطبيق القرارات الصادرة على ارض الواقع. نعم هذه تساؤلات مشروعة وحارقة في آن واحد، وعلى أي حال هذه نتيجة طبيعية ومقبولة من حيث منطق الامور والمفهوم السوسيولوجي والسيكولوجي، فعندما تصطدم الاحلام والآمال بمرارة الواقع، يحدث عنه هزة لا يتمخض عنها إلا الاحباط واللامبالاة.

غير ان الاحلام التي يتوق إليها مواطنو هذه الشعوب ليست كبيرة كما يعتقد البعض، بل هي بسيطة كبساطة حياتهم ومعيشتهم، تكمن في الغاء القيود ايا كانت (حدود، جمارك، الاستثمار، العمالة، السوق المشتركة، الرسوم، الضرائب، التنقل بالبطاقة، التملك... الخ) بمعنى انهم يطالبون بتفعيل التوصيات أي تحققها على ارض الواقع، كإنشاء لجان لتنفيذ القرارات ومتابعتها.

ان التقويم الموضوعي لأي قضية، يتطلب الارتهان الى المنطق ومنهج الملاحظة، مما يحقق النتيجة المثلى في نهاية المطاف، وهذا ما يجعلنا نرى الصورة بوضعها الكائن والشامل، فالانتقاد البناء لا بد ان يكون محايدا، بل يجب ان ينزع الى الحياد النسبي على اقل تقدير، فالمبالغة في المدح أو الذم، تفقد الشيء قيمته، بل ومصداقية قائله، لذلك فالتحليل المعرفي عادة ما يحدد هذه القواعد، ويسمي الاشياء باسمها وبحقيقتها وبوضعيتها الراهنة، وبناء على ما ذكرناه آنفا، نجد ان مجلس التعاون الخليجي نجح نجاحا واضحا ـ وان كان نسبيا ـ في مواجهة التحديات والتحولات المفاجئة على الصعد كافة من سياسية واقتصادية فضلا عن الحربين اللتين اكتوت دول المنطقة بأضرارهما واثارهما، ورغم كل ذلك بقي الكيان مجسدا، وتوالت القمم رغم المصاعب والمشاكل والمصالح، ولكن تبقى الاشكالية في تركيبة الآلية التي يقوم عليها مجلس التعاون الخليجي. فقيام مجلس التعاون الخليجي، رغم اهميته المعنوية، ووقوفه ضد الصعوبات التي صادفها منذ نشأته، لا تعفيه من المسؤولية في الاخفاق، وعدم تحقيق تطلعات شعوب دوله، رغم ان انجازاته متعددة وكثيرة، إلا ان محصلتها ما زالت ادنى مما يأمله المواطن الخليجي، ولعل ما يعيب المجلس الخليجي عدم اثارته للقضايا التي تمس المواطن الخليجي في يومه المعاش، وان اثيرت فإن دراستها تستغرق وقتا طويلا مما يهيئ المواطن لنسيانها.

انا لا القي اللوم على الامانة العامة للمجلس، بقدر ما أتهم دول المجلس كافة في تحمل المسؤولية. وليس عيبا ان نعترف بالفشل ومحاولة المعالجة والتصحيح، لأن قوتنا في تفعيل هذا المجلس، والشفافية والصراحة ونقد الذات وحدها هي التي تضمن لنا بقاء القوة والبناء والتلاحم، فلا يضيرنا ان نعترف ازاء تقصيرنا واخطائنا، فنتحمل شجاعة القرار، ومن هنا ـ فقط ـ يمكن ان تتحقق احلام الوحدة والتكامل، فلا نخاف من رياح الغد ولا نقلق من ضياع مكتسبات الماضي.

على الخليجيين ان ارادو تجسيد كيان فاعل في ظل التقويم الموضوعي وبعيدا عن التنظير المموج، عليهم ان ينزعوا في لقاءاتهم (قبل لقاء الآخرين) الى حل الجزئيات الصغيرة والاتفاق بشأنها، نعم الجزئيات البسيطة، وربما (التافهة) في نظر البعض.. ولك ان تتخيل النتيجة؟!! ستكون ـ في غالب الاحوال ـ دولا متفاعلة ومتحركة تحت مظلة كيان صلب، اما اذا كرسنا اسلوبنا المعتاد في التوق الى الاحلام الكبيرة والمشاريع الضخمة ضمن منظومة الانفعال اللحظي والارتجالية البحتة، دون التريث ومحاولة الدراسة والتحليل المعرفي لقضايانا ولحاجياتنا، فإن المآل هو الفشل، والمصير هذا لا يلبث ان يتكرر في صور مختلفة.. وعند المقارنة، نجد المفارقة، فدول اوروبا رغم الاختلاف والتعدد في اللغات والاديان، فضلا عن التراكم التاريخي المشحون بالخلافات والحروب، نجدها اليوم نموذجا يستحق التأمل والدراسة، فها هو المجلس الاوروبي بعنفوانه وكيانه الملموس، لا يلبث ان يكرس المثال الحي لما ذكرناه آنفا، فنشأته كانت في اعتقاد الكثيرين نشأة خجول بدأت من تلك الجزئيات الصغيرة (بطاقة دخول مشتركة، سوق مشتركة، عملة موحدة، محكمة عدل، برلمان مشترك... الخ) في حين ان المواطن الخليجي، وبعد مرور عشرين عاما من نشأة المجلس، ما زال يدور في نفس الدائرة، مهمشا في جدول اعمال القمم، مع انه يفترض ان يكون اول الاولويات.

ورب قائل يقول ان الظروف والمتغيرات الدولية والاقليمية ادت الى اهتمام المجلس بالمنحى السياسي وابعاده، مما اشغل دول المجلس عن الاهتمام الداخلي وشؤونه، وهذا صحيح الى حد كبير، لكن انشغال المجلس بهذا الهم يستحق هذه الفترة الطويلة من السنوات. أليس بالامكان مراجعة دقيقة للأوضاع وللتحولات بشكل متوازن وعادل، بحيث لا يطغى جانب على آخر، وان طغى، فإنه يكون مؤقتا لا يلبث ان يعود الى التوازن.. وفي التوازن يكمن الحل.