مفكر ليبي يؤمن بنظرية أن (شكسبير) هو (شيخ الزبير) ويستغرب أن يكون طه حسين عميدا للأدب العربي!!؟

TT

تناولنا في الاسبوع الماضي الرد على تخرصات يائسة حاولت انكار وجود طه حسين، قام بها من أخطأ السبيل الى التسلق والبحث عن شهرة وئدت قبل أن تولد، لعدم ارتكازها على مقومات منطقية. وما نحن بصدده اليوم فإنه أنموذج يختلف عن سابقه ممن تناول الدكتور طه حسين بالتطاول، لأنه صاحب كتاب (النزعة العقلية في تفكير المعتزلة)، كما له دراسات معمقة عن التصوف الاسلامي في شمال افريقيا، وله كتب ودراسات عن المسألة الامازيغية، وحاول اضفاء النزعة اليعربية على مصر القديمة، وقام بترجمة كتاب (تحولات الجحش الذهبي) وله أيضاً (نظرة الغرب الى الاسلام في القرون الوسطى) و(حديث الأحاديث) الذي يرد فيه على ما كان يطرحه الشيخ محمد متولي الشعراوي من آراء وأفكار... وغير ذلك من كتب ودراسات أخرى في مجالات النقد واللغات.

فإذن نحن أمام رجل يعد من زمرة المثقفين!! وأنموذج كهذا يتساءل: «لماذا!!.. كيف؟!.. وعلى أي أساس نال طه حسين لقب عميد الأدب العربي؟!!.. لست أدري؟!» ويضيف في مكان آخر: «إن طه حسين لم يكن مفكراً، كان أديباً تحركه السياسة، أو سياسياً يدفعه الأدب، ولم يكن له دور سوى الدعوة الى فصل مصر عن محيطها العربي!! ولا أظنه مؤمناً بالثقافة العربية بمعناها القومي».

جاء ذلك وغيره في لقاء أجرته معه جريدة «الشرق الأوسط» في 2000/12/3.

ولا أظننا سنجد كبير عناء في الرد على الدكتور خشيم، فيكفي أن نذكره بالدور الذي قام به عميد الأدب العربي عندما استنهض الخمول الفكري الذي كان سائداً، وقدح زناد الفكر لايقاظ العقل العربي من ذلك السبات عندما مهد له الطريق في البحث والتنقيب والتحليل الحر، لعل ذلك يعيد الى ذاكرة الدكتور خشيم كيف كان هو وأترابه يرتشفون عذب ما يرطب جفاف حياتهم من مناهل طه حسين الثرية.

فطه حسين المتميز في الأدب الحديث تأليفاً ودراسة وترجمة ونشراً ذو دور فريد في ميداني الوطن والثقافة حضا وتوجيها وتطويرا، وذو دور فريد في حق التربية، إذ أقر التعليم المجاني عندما نادى بمبدأ ان التعليم اجباري كالماء والهواء.

أتستخسر في رجل كهذا ـ يا دكتور خشيم ـ لقب عميد الأدب، وأنت تعلم أن هناك من نالوا ألقاباً تفوق هذا اللقب بمرات ومرات، وليس فيهم من يرقى الى معطى واحد من معطيات طه حسين؟!! دعني أعيد الى ذاكرتك ما كتبه الدكتور صلاح المنجد عن طه حسين حينما قال:

«عملاق فذ ملأ عصره بوجوده، وهزه بآرائه وخصوماته، كان عجيباً في كل شيء لأنه كان يكره الاعتدال...

عجيب في عماه الذي أعطاه الذكاء المتوقد..

وفي سخريته من القديم وحبه الخروج عليه..

في جرأته أيام شبابه، وفي خصامه العنيف مع جميع ذوي الشأن من أدباء مصر..

في جبروته وعناده، وفي عونه للذين يلجأون إليه ويلوذون به..

وفي ملاطفته الطغاة والحكام..

في حبه السيطرة على كل شيء مهما دق وجل في كل منصب تبوأه، أو عمل قام به..

في أسلوبه البكر، النقي، السلس، الصافي الذي طلع به على الناس فبهر أبصارهم وفتن قلوبهم..

في حديثه الممتع الساحر إذا تحدث والقائه الناغم الرنان الأخاذ للقلوب والأسماع إذا خطب..

في نهجه الجديد في نقد الأدب ودراسته الذي قلب الموازين وجدد المفاهيم..

في بقائه طول حياته أسيراً لعاطفته يرجع اليها ويقيس بها..

نعم.. كان عجيباً في كل شيء، وعبقرياً أيضاً، ولا بد للعبقري من هذه الشخصية المتناقضة، وإلا لكان شأنه شأن العامة من الناس. لقد أعطى البلاد العربية الكثير من فكره وأدبه وعلمه، فتأثر به الكثيرون وثار عليه الكثيرون أيضاً.

وخاض في السياسة والأدب معارك حامية ضارية بعنف وعناد وجرأة فخرج منها مثخناً بالجراح والاتهامات، أو مكللاً بالغار والمديح..

خلف عشرات وعشرات من المؤلفات وآلافاً مؤلفة من التلاميذ، وسيبقى طه حسين الأديب والباحث والمؤلف والناقد والمعلم للأجيال المقبلة وللتاريخ.

سيختلف فيه الناس بعد مماته كما اختلفوا في حياته، لكن شيئاً وحيداً سيبقى خالداً منه هو أسلوبه الأدبي الذي دخل التاريخ مع الأساليب النثرية العربية، فكما نذكر اليوم أسلوب الجاحظ، ستذكر الأجيال المقبلة دائماً أسلوب طه حسين».

لعل ما كتبه المنجد عن طه حسين ينشط ذاكرة الدكتور خشيم الذي يجد أن رجلاً فذاً كطه حسين غير جدير بلقب يتشرف إذا اقترن به. نعم.. فهناك من تشرفهم الألقاب وهناك من تتشرف الألقاب بهم ولا أظن أن لقب عميد الأدب العربي الذي استنكره خشيم على طه حسين كثير عليه، حتى يأتي من ينفيه عنه، وأرجو ألا يكون نفي خشيم لهذا اللقب عن طه حسين نابعاً من آرائه التي نشر البعض منها في كتابه: (رحلة الكلمات الأولى) حينما ثنى على مقولة ان شكسبير هو (شيخ الزبير) التي قال بها بعض من يريدون لوي ذراع الحقائق، وتلبيسها لبوس الأعراب وباعتبار ان الدكتور خشيم من النقاد، لا شك انه يدرك ان طه حسين قد أحدث ثورة أعادت النظر في الأدب والأساليب الأدبية وفتحت الطريق واسعاً أمام الخلق والابداع عندما أضرم النار في هشيم النظريات القديمة المتحجرة، بعد أن أخذ يدعو الى تحكيم العقل في كل شيء عندما رأى تلك الفوضى التي طغت على العقول والأقلام، فلم يجد إلا سبيل الثورة والرفض طريقاً يسلكه في غير هوادة ولا مداراة حتى استطاع هذا الضرير العملاق أن يقلب المفاهيم الأدبية التي كانت سائدة من قبل، وان يجعل نفسه حداً فاصلاً بين مقياسين للنقد الأدبي عندما انطلق في جرأة وعمق في توجيه الأمة ومعالجة أسباب التخلف فيها يوم ناهض المتحجرين المتزمتين الذين ناصبوه العداء وجعلوه هدفاً لضراواتهم وأحقادهم، بحجة انه اعتمد الأساليب الغربية، وانه يريد ان يكون جسراً للثقافة الغربية، وانه قد استخدم منهج ديكارت وسار في نقده على أساليب (سانت بوف) و(برونتير).

والآن ينضم الدكتور خشيم الى قافلة من يتصدون لرجل جعلته آراؤه النقدية أضخم ناقد عربي أفرزته الأزمنة المعاصرة، ويتضح ذلك بجلاء لدى أي مطلع على دراساته في الأدب العباسي العابث الماجن، وأبي العلاء والمتنبي وابن الرومي وغيرهم.

إن من تنكر عليه عمادة الأدب العربي يا دكتور خشيم هو من اتخذ من الأدب العربي موقفاً خاصاً وخالف ما كان يراه أي باحث سواه، فتلقى بسبب ذلك هجوم الفئات الجامدة، وعلى رأسها مصطفى صادق الرافعي الذي طالب الحكومة بالاقتصاص من ذلك الجريء، ولكنهم جميعاً سقطوا على صخرة ما كان يحتج به عليهم باتباعه ذلك الأسلوب الرائع عندما كان يتناول الأمور تمحيصاً وتحليلاً طلباً للحقيقة واخلاصاً للأدب والفن، بل الإخلاص كل الاخلاص للانسان.

وكنت قد أعددت للرد على الدكتور خشيم عدة دراسات أؤكد فيها على معطيات طه حسين والتي تجعل منه بحق عميداً ورائداً للأدب العربي المعاصر، فطه القصاص ورجل الاجتماع، ورجل الدراسات التاريخية والسير الذاتية، وتحدثت عن مميزاته التي تفرد بها دون سواه.. لكنني اكتشفت ان كل ذلك أصبح يعد من نوافل القول، وفضلت أن آتي على سطور للدكتور خشيم لكي يقف القراء على فكرة لرجل يستخسر على عملاق كطه حسين لقب عميد الأدب، جاء في ص (271) من كتاب رحلة الكلمات الثانية للدكتور خشيم التالي:

«الحال رمضان، شهر الجوع والصبر والبعد عن الشهوات، لكن موائدنا تزدحم بأطايب الطعام.. ولا تكتظ كروشنا إلا في لياليه ولا تفوح مطابخنا بأريج الطهو إلا في عشياته وأماسيه.. ويقولون شهر الصوم!!» ولو أردت الاستشهاد بفقرات مما كتبه خشيم الذي ينكر على طه حسين عمادته للأدب العربي، لجعلتكم ترون ما هو دون ما قرأتموه من سطوره السالفة بكثير وكثير.. ولكن ماذا نقول ونحن نعيش في زمن علماؤه يهرفون بما يعرفون ـ ولا أقول ما لا يعرفون ـ إيثاراً للشهرة، والتماساً لأن يكونوا أخداناً أليفة لذوي الجاه والسلطان، حتى وإن كان ذلك على حساب حقائق هم يعرفونها قبل غيرهم..

ولا أجد مناصاً لختام موضوعنا غير اللجوء الى نزار قباني وهو يخاطب طه حسين قائلاً:

ارم نظارتيك ما أنت أعمى انما نحن جوقة العميان.