الألفان: الانفجار

TT

انتهت الاصفار. يجب ان ننتظر الآن الف عام اخرى لكي نعيد الى التقويم ثلاثة اصفار اخرى، ها هو الرقم واحد يغير في شكل الرقم المفزع: الفا عام يتحولان الى ثلاث اصفار. وامام هذا الغور في الزمان، لا احد منا يعرف كيف ينظر الى زمانه: الطب يتقدم والعائلة تسقط. العالم يصغر والثقافة تنهار. العقل الفردي يسبر غور نفسه بلا حدود والعقل العام يخمل أمام آلة الجيب التي تحل عنه الاعمال الحسابية والآلة التي تصحح عنه الاملاء والآلة التي تترجم له النصوص والآلة التي تكتب له الرسائل التجارية. كان الانسان يسافر قليلا في الدنيا على ظهر الحصان وكان يرى الكثير، واصبحنا نسافر بالطائرة ولا نرى شيئا. كل ادب الرحالة العظيم وضع قبل ظهور السيارة. كل الوقت كان ملك الانسان عندما كان يعبر البراري والبوادي على ظهر فرس ومعه بغل حرون يحمل زاده ومتاعه. ومعه محبرته وريشته. كل سفر عظيم وضع قبل ظهور الآلة الطابعة ومجالس البحوث وفرق الابحاث. من «العقد الفريد» الى «لسان العرب». بل شعر عظيم وضع قبل ظهور «المراجع»: من المتنبي الى شكسبير. قلب رامبو الشعر الفرنسي ومات وهو دون الثلاثين. وقلب اللورد بايرون الشعر الانكليزي ومات وهو فوق الثلاثين بقليل. وقد سافر كلاهما حول العالم في زمن العربات والخيول والمراكب الشراعية.

كلما منحنا التقدم شيئا افقدنا اشياء. طائرة الفانتوم تطير من اوروبا الى كاليفورنيا في 3 ساعات ونصف الساعة لكنها ايضا تقصف الاطفال في مدارس العرب وغابات فيتنام. والاقمار الصناعية تنقل الينا صور العالم في لحظتها لكنها تنقل الينا ايضا الشر والانحلال والانحطاط والمسلسلات الثقيلة الدم. والزعيق. الناس الذين يزعقون ساعة كاملة من دون ان تفهم كلمة واحدة مما يقولون او ما هو موضوع الزعيق؟ او ما هو سببه؟ او ما هي موجباته؟ ولماذا يزعق المخلوق اذا كان يملك المنطق والحق؟

اننا نخرج من عالم البطء والتأمل والهدوء واليوم الطويل. تضاعفت معدلات الحياة وانخفضت لذة العيش. لقد تفجرت العائلة امام التلفزيون وسقطت المكتبات وغداً تغلق المكتبات العامة التي كانت تضم ثروات الاجيال لتحل محلها المعلومات المرقمة. دخل ابني الى الجامعة ليتعلم لكنه يعود اليّ دائما وهو يتذمر: انهم يعطوننا امثلة لا تعطى للاطفال. ما هذه السخرية بالعقول، لكنها ليست سخرية بالعقول، انها مماشاة لها، الانسان الخارج من الالفين لا يريد ان يبدع ولا ان يتعب ولا ان يجهد نفسه، يريد ان يملأ نفسه ويفرغها. وان يستبق الحياة لا ان يعيشها، وان يكدس المتع لا ان يخبرها. لم يعد احد يعرف ماذا يريد؟ ولا عاد احد يريد شيئا سوى ماديات يومه وغده، الافلام الرائجة تصور المآدب المنوعة والروايات الرائجة تدور في المخادع والشخصيات المثيرة للاعجاب هي التي تجيد التحايل ولا تقول الحقائق وتنتقل من عهد الى عهد ومن كلام الى كلام معاكس ومن قيم الى قيم ومن ادعاء الاخلاق الى المباهاة بقلة الاخلاق.

انه يجرفنا هذا العصر. يجرفنا ويجرف قيمنا ومثلنا واسلوب حياتنا. والعائلة تنهار. واصبح في امكان الشذاذ ان يلدوا من الانابيب. واصبح في امكان الولد ان يكون بلا اب وان تكون امه مستعارة. وانهارت مؤسسة الزواج لتحل محلها مؤسسة الطلاق، انه العام 2001. عالم ينقلب نحو عالم آخر.