وهم إنهاء الصراع

TT

هل يمكن انهاء صراع تاريخي عمره قرن على الأقل، بوثيقة يمليها طرف على آخر؟

إذا غضضنا الطرف عن مضمون المقترحات الأمريكية بكل سوءاتها، وإذا افترضنا انها أمريكية حقاً، وأن المطبخ الصهيوني في ادارة الرئيس (الامريكي بيل) كلينتون لم تكن له يد فيها، وإذا قلنا ـ استعبطنا أدق ـ ان الذين أعدوها كانوا على درجة عالية من البراءة وحسن الطوية، إذا فعلنا ذلك كله وتعاملنا مع المسألة بنفس الدرجة من البراءة المفترضة، ثم تساءلنا: هل ذلك ممكن حقاً؟ وإذا كان ذلك ممكناً من الناحية النظرية والقانونية، فهل يؤدي ذلك فعلاً إلى انهاء الصراع وتحقيق السلام المنشود؟

أذكر أن الملف الفلسطيني يكتظ بالمشاهد العبثية الحافلة بكل ما ليس معقولاً، وما لا يخطر على قلب بشر، وأزعم أن قرار تقسيم فلسطين ذاته هو بداية تلك المشاهد العبثية، من أكثر من وجه. ذلك أن الجمعية العامة حين قسمت فلسطين بين العرب والصهاينة وأعطت الأولين 45% من الأرض والآخرين 55%، بينما لم يكن لليهود آنذاك أكثر من 6% من أراضي فلسطين، حين فعلت ذلك، فانها أقدمت على خطوة غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ المنظمة الدولية، حيث لا تعرف لها دوراً في تقسيم الأوطان أصلاً، ناهيك من أن يكون ذلك التقسيم بهذه الطريقة الموغلة من العسف والظلم. حتى صدق فيها قول من قال ان من لا يملك أعطى لمن لا يستحق. لا أريد أن أستطرد في عرض بقية حلقات العبث، لكنني سأتوقف عند ذلك المشهد الذي يراد به اسدال الستار على المسلسل مبتدئاً بتحرير مصطلح «انهاء الصراع». ذلك أنه تعبير سياسي وليس مصطلحاً قانونياً بأي حال. فالاتفاقات في مثل هذه الحالة تتحدث عن انهاء حالة الحرب، أو الصلح، أو معاهدة سلام، أو الاعتراف المتبادل، وتلك مصطلحات لها مدلول قانوني واضح ومنضبط. أما انهاء حالة الصراع فهو تعبير جديد، لا معالم واضحة لمضمونه، ويتداخل فيه السياسي والقانوني والاجتماعي. إن شئت فقل انه مصطلح ملتبس يتعذر ضبط مضمونه، ومن ثم يتسع محتواه لكي يشمل أي شيء تريد اسرائيل أن تدرجه في اطاره.

ان من يدعو إلى إلزام الآخر بانهاء صراعه معه يريد أن يحصل منه على توقيع يؤكد بمقتضاه أنه ليس ملزماً تجاه الآخر بأي استحقاق يدعيه عليه. هو يريد أن يغسل يده من جرم ارتكبه بحق الآخر، ويطهر صفحته من الدنس الذي أقدم عليه منذ نصف قرن على الأقل. وإذا نقَّبنا وراء المصطلح وحاولنا أن ننقص الحالة النفسية لمن دعا إليه، سنجد أنه نابع من شعور بالاثم والفضيحة، فالطرف الاسرائيلي يعرف جيداً أنه سرق الأرض واغتصب فلسطين. والجريمة هنا لا يمكن غفرانها أو نسيانها، لذلك فانه لا يريد أن يكتفي بالصلح أو انهاء حالة الحرب أو تبادل الاعتراف، وانما هو يطالب بمحو الجريمة كاملة من السجل، والتأكيد أنه لم يعد للفلسطينيين شيء عنده.

هل هذا ممكن من الناحية العملية؟ وإذا افترضنا أن الرئىس ياسر عرفات قبل بتوقيع الاتفاق كما هو، وأقر بأن الصراع قد انتهى، هل ذلك يمثل نهاية حقيقية له؟

مستحيل من الناحيتين النظرية والعملية. من الناحية النظرية فان الصراع الذي نحن بصدده هو حالة اجتماعية وسياسية، لا تزول باعداد وثيقة أو توقيعها من جانب الزعماء المعنيين. وفي الخبرات التاريخية للبشرية، فان الدول المتصارعة لا تنهي ما بينها من ضغائن بقرار، وانما ينتهي ما بينها من صراع بعد أن تقيم نسيجاً من العلاقات الطبيعية والثقة المتبادلة، التي تستأصل جذور الخصام والكراهية بمضي الوقت. لذلك نالت توقيعا من جانب الزعماء والشهود على وثيقة مهما كانت قوة ألفاظها، تعجز أن تحدث ذلك المفعول. وقد تجتمع تلك التوقيعات وتبقى جذور الصراع كما هي، لا ينتقص منها شيء.

من الناحية العملية، فان أي عاقل لا يستطيع أن يتصور امكانية انهاء الصراع بينما هناك أكثر من أربعة ملايين لاجئ خارج فلسطين ـ هم ضحايا الصراع بالأساس ـ ليس لهم الحق في العودة إلى ديارهم وبلادهم. ولا يمكن أن ينتهي الصراع والمسجد الأقصى تحت السيطرة الاسرائيلية، بل ان هذا الشق بالذات من شأنه أن يوسع من دائرة الصراع ويؤججه، بسبب البعد الاسلامي له. ولا يمكن أن ينتهي الصراع بينما المستوطنون موجودون في قلب الضفة الغربية، يذكرون الشعب الفلسطيني كل يوم بجوهر الصراع وطبيعة المشروع الصهيوني التوسعي.

أستطيع أن أعدد شواهد أخرى كثيرة يراد للفلسطينيين أن يعيشوا في ظلها، بشعور المقهور والمهان، ثم يطالبون رغم ذلك بأن يغمضوا أعينهم ويصموا آذانهم ويدوسوا فوق مشاعرهم ويلغوا ذاكرتهم فضلاً عن مداركهم، ويقرون في النهاية بأن الصراع قد انتهى، وأنه لم يعد في نفوسهم شيء من رواسب الماضي ومخلفاته. وعليهم بعد ذلك أن يعيشوا في سلام مع الاسرائيليين.

ناقشت عدداً من أساتذة العلوم السياسية في مفهوم مصطلح انهاء الصراع، فقال لي أحدهم أن من يقوله بذلك في الشأن الفلسطيني بوجه أخص إما أن يكون أبله لأنه يطالب بالمستحيل ويتصور امكانية حدوثه، وإما أنه ماكر وخبيث يدرك استحالة المطلب ومع ذلك يصر على ابرامه لارغام الطرف الآخر على التسليم بالأمر الواقع، ورفض أية مطالب له في المستقبل.

سألت أهل القانون الدولي: هل يكتسب اتفاق من هذا القبيل شرعيةً في الساحة الدولية، وألا يعد الضغط على الفلسطينيين لارغامهم على توقيعه نوعاً من الاكراه الذي يشوب الارادة، ومن ثم يبطل الاتفاق بحسبانه أقرب إلى عقود الإذعان التي تعد عقوداً فاسدة من الناحية القانونية.

قالوا ان الاتفاق إذا وقع من دون اكراه مادي، فانه يعد صحيحاً من الناحية القانونية، ويمكن الاعتداد به في مواجهة المنظمات الدولية. والمقصود بالاكراه المادي أن يساق الطرف المعني رغماً عنه إلى مكان التوقيع، ويجبر على ذلك تحت تهديد القوة المسلحة. أما إذا كان الاكراه معنوياً فحسب، بمعنى أنه مقصور على ممارسة الضغوط وتضييق الخيارات السياسية، فذلك لا يفسد الاتفاق ولا يجرحه.

قالوا أيضاً ان النظام القانوني الدولي أقر بصحة الاتفاقات التي يشوبها الاكراه المعنوي، وأكثر تلك الاتفاقات التي وقعت بعد الحروب خاصة شابها ذلك الاكراه بدرجة أو أخرى. كما حدث مع ألمانيا واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان الدافع إلى ذلك هو الحرص على تحقيق الاستقرار في أنحاء العالم. ولقاء ذلك فانهم لم يمانعوا في وقوع بعض صور الاكراه المعتدي، الذي يتعرض له المهزوم في أي حرب. وكان من رأي فقهاء القانون الدولي أنه لو فتح الباب لابطال مفعول الاتفاقات التي وقعت في ظل الاكراه المعنوي، لعادت الاضطرابات والقلاقل وهددت الأمن والسلم الدوليين مرة أخرى.

الخلاصة أن رجال القانون لم يجدوا غضاضة ـ من زاويتهم ـ في توقيع اتفاق ينص على انهاء الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وان اعتبروا ان المشكلات التي يمكن أن يثيرها اتفاق بهذا المضمون ستكون سياسية أكثر منها قانونية، إذ طالما أن الفلسطينيين لم يكرهوا بقوة السلاح وأقدموا على التوقيع، فان الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وغير ذلك من المنظمات الدولية، ستتعامل معه باعتباره سليماً من الناحية القانونية.

لا شك أن اسرائيل تدرك ذلك، وتدرك أيضاً أن مثل ذلك الاتفاق لن ينهي الصراع. ولن يسهم في اقرار السلام، وربما كان بداية طور جديد من القلاقل والاضطرابات. وأغلب الظن أنها تقدر أن التوقيع في هذه الحالة سيشق الصف الفلسطيني، وسيفتح باب النقمة على السلطة التي وقعته، الأمر الذي يفتح باب الاضراب الفلسطيني ـ الفلسطيني. لكنها مع ذلك تريده لكي تحتج به أمام المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة.

ولا أستبعد أن تكون قد عولت على قدرتها القمعية في مواجهة أية اضطرابات سياسية تحدث بعد ذلك، إذا أصابها منها شيء.

أياً كان الأمر، فالقدر المتيقن أن الصراع سيظل مفتوحاً، طالما استمر الظلم الواقع على الفلسطينيين، رغم محاولات تجميله أو اخفاء معالمه أو قمع الأصوات الرافضة له. ولن يفلح أي اتفاق مهما كان مضمونه في اقتلاع جذور الكراهية من أعماق الذين يعانون من الظلم والذل.

ان الدعوة إلى انهاء الصراع في ظل هذه الملابسات ليست نوعاً من العبث فحسب، ولكنها أيضاً خليط من الاستهبال والشيطنة، الأمر الذي يبلغ أقصى مدى له حين يقال للفلسطينيين والعرب انهم ازاء فرصة تاريخية يتعين احتيالها، وإلا فات القطار!