في التأني... السلامة

TT

نحمد الله أن قمة شرم الشيخ الفلسطينية ـ الاسرائيلية لم تنعقد كما كان مقرراً يوم الخميس 28 ديسمبر (كانون الاول) 2000، وان كانت الخشية من معاودة عقدها خلسة في أي يوم.. واردة.

نحمده بصرف النظر عمَّا اذا كان مضيفها الرئيس حسني مبارك آثر عدم الاستضافة كي لا يقال انه شمل برعايته قمة انتهت الى المزيد من التفريط بالقضية الفلسطينية ومتى؟ في اليوم الثاني لعيد الفطر المبارك! ونحمده بصرف النظر عمَّا اذا كان المستضاف الفلسطيني الرئيس ياسر عرفات استدرك في اللحظة الأخيرة أن السلامة هي في التأني وأنه من أجل ذلك عليه أن يتروى فلا يعتبر أن ما سيحصل عليه ينطبق عليه القول المأثور (خير البِرْ عاجله) اذ ليس في الأمر مثل هذا البِرْ الذي يؤمِّل الفلسطينيون النفس به، بل على العكس من ذلك ان الذي يعرضه الرئيس كلنتون عليهم يندرج القبول به تحت القول بأن (العجلة من الشيطان) أو (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة).

ونحمده أيضاً وأيضاً بصرف النظر عمَّا اذا كان رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك خشي من اصرار الجانب الفلسطيني على ربط أي اتفاق مع اسرائيل بضمانات أميركية، وعلى أن موضوع حق اللاجئين في العودة هو من حيث النظرة الانسانية والاجتماعية بأهمية استعادة القدس مقصقصة الأطراف وبأهمية السيادة على المسجد الأقصى (مع أنها لن تكون كاملة) من حيث النظرة الروحية والوجدانية.

ونحمده أيضاً وأيضاًً بصرف النظر عمَّا اذا كان الرئيس كلنتون وجد أن الفصل الأخير من العملية السلمية ليس بالسهولة التي يفترضها، وأن حلمه بتتويج ولايتيه الأولى والثانية بانجاز تاريخي أو انجاز العصر هو مثل حلم ابليس بالجنة. فما يفعله الرئيس الذي قاربت شمس حكمه على المغيب هو تفليسة لقضية أكبر منه بكثير هي القضية الفلسطينية بوجهيها: الوجه الذي يخص الفلسطينيين ويستطيع الرئيس عرفات أن يعتبر نفسه ممثِّلاً لنصفهم وعلى نحو تمثيل الرئيس جورج بوش الابن (وفي ضوء الانتخابات الأخيرة) لنصف الشعب الأميركي. وفي ما يتعلق بهذا الوجه فان الرئيس عرفات يستطيع أن يتخذ من القرارات ما يحلو له أو يراه من وجهة نظره مناسباً ويتحمل وزر ما يفعله. أما الوجه الآخر والمتعلق بالمسجد الأقصى فهذا يخص الفلسطينيين بقدر ما يخص أي شعب مسلم سواء كان هذا الشعب بالملايين على نحو شعب إندونيسيا أو باكستان أو ايران أو السعودية أو مصر أو البحرين التي قررت تحويل نفسها من دولة الى مملكة... وغيرها من الدول والشعوب الاسلامية.

ولأن الرئيس كلنتون تعامل ويصر على التعامل مع القضية وكما لو أنها تفليسة شركة يتولى أمر تصفيتها فانه أخفق في ايجاد الحل واستمر الاخفاق يتواصل الى أن قاربت شمس حكمه على المغيب. ومن أجل ذلك قد يكون هو نفسه ارتأى بعدما وصلته من السلطة الوطنية الفلسطينية جملة من الاستفسارات والتساؤلات حول مقترحاته لانهاء موضوع النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، أو التفليسة كما هو واقع الحال... قد يكون ارتأى أنه ما دام لا يملك الاجابة الشافية على الاستفسارات والتساؤلات الفلسطينية، فمن الأفضل أن ينهي الفصل الأخير من مسرحية تعاطيه غير النزيه وغير العادل مع العملية السلمية بالمقترحات التي نشرت ماكينة الاعلام الأميركية والصهيونية أجواء من الايحاءات بأنها خير المقترحات مع أنها في نظرنا ونظر أبناء القضية المعذبين في أرض فلسطين المكتوين بنار الاحتلال الاسرائيلي المرضي عنه من الادارات الأميركية، على طريق التصفية النهائية لقضية تخص في الجانب الأكبر منها مليار ومائتي مليون مسلم منتشرين في أرجاء الكرة الأرضية من لبنان الى الصين. وبالتوقف عند طرح المقترحات التي تغلب عليها ملامح الترويج التي تشبه الترويج لسلعة مستحدَثة الانتاج، يُقنع الرئيس كلنتون نفسه ـ ولا يُقنعنا بالتأكيد ـ أنه بذل كل جهد ممكن وأنه يترك مقترحاته برسم التنفيذ عندما تقتنع الأطراف بجدواها، على نحو ما فعل الرئيس (الراحل) الحبيب بورقيبة عندما طرح في منتصف الستينات مشروعه الشهير في شأن التقسيم، ولم يأخذ العرب والفلسطينيون به، وعلى نحو ما فعل الرئيس (الراحل) أنور السادات عندما حاول اشراك الفلسطينيين في مفاوضات صفقة التسوية الشهيرة في فندق «مينا هاوس» في القاهرة لكن هؤلاء قاطعوا وبقي وحده دافعاً باهظ الثمن على الذي فعله. والاثنان، بورقيبة والسادات، تعاملا مع القضية، وبحجة الواقعية، تماماً على نحو تعامل كلنتون، يريد كل منهم تتويج نفسه بطلاً تاريخياً، ولم ينظر أي منهم الى أن جزءاً من القضية الفلسطينية لا يخص الفلسطينيين وحدهم وانما يخص على نحو ما سبق وذكرنا المليار والمائتي مليون مسلم في العالم، بل لعل هذا الجزء هو نقطة التصاق هذه الكتلة البشرية الهائلة بالقضية الفلسطينية، والجزء الذي نعنيه هو المسجد الأقصى.

ونجد هنا من الضروري التوضيح بأن العرب والمسلمين وبأكثرية أنظمتهم وحكامهم وصلوا بالتدرج نزولاً الى رؤية خلاصتها، على نحو ما جرى التعبير عنه، أنهم يوافقون على ما يوافق عليه الشعب الفلسطيني. وبصرف النظر عمَّا اذا كانت هزيمة 1967 وانتصار 1973 الذي لم يكتمل وحرب لبنان واجتياحه ثم اجتياح الكويت والحرب على العراق هي الدافع الى هذه الرؤية من منطلق الضجر من القضية الفلسطينية أو العجز عن القيام تجاهها بالواجب على الوجه الأكمل... بصرف النظر عن التبريرات والحيثيات، فان هذه الرؤية تحتاج الى توضيح أو حاشية بحيث يشار الى أن ما يخص المسجد الأقصى لا يدخل ضمن هذه الرؤية، وذلك لأن مصير المسجد يتطلب موافقة كل دول العالم الاسلامي ولا يحتمل تحفظاً من هذه الدولة عند التصويت، أو امتناعاً من تلك عن التصويت، وبالذات اذا كان التصويت على سيادة اسلامية منقوصة على المسجد الأقصى، وهل تمانع في أن تكون لاسرائيل حصة فيه بمعنى أن يكون ما تحت المسجد لاسرائيل وما على الأرض للفلسطينيين على نحو ما تفتّقت عنه عبقرية المستشارين اليهود المتغلغلين في الادارة الأميركية التي هي على أهبة الرحيل، ثم صاغ المستشارون فكرة الأرض وما تحتها بشكل مقترحات انبهر الرئيس كلنتون بها كل الانبهار فعرضها على شريكيه عرفات وباراك برسم الأخذ بها؟ ولا نظن بل ونجزم بأنه لن يكون في استطاعة أي دولة اسلامية أن تمارس مرونة في هذا الشأن، حتى اذا كانت هذه الدولة هي تركيا بكل علمانية نظامها المفروضة بقوة المؤسسة العسكرية.

يبقى أنه من الواضح أن الاستعجال في ايجاد صيغة للفصل الأخير من مسرحية التسوية هو ما نتابع تطوراته وتداعياته. والاستعجال هنا هو مثل الهرولة التي اتسمت بها بعض المواقف العربية والاسلامية وأدت في النهاية الى علاقات خجولة ومخجلة بين البعض واسرائيل سرعان ما تصدعت بفعل انتفاضة الأقصى التي أحدثت تحولاً في التعامل العربي والاسلامي مع القضية. ولنا في القمة العربية الاستثنائية في القاهرة ثم في القمة الاسلامية التي جرى عقدها في الدوحة الدليل على أن بعض المروءة العربية ـ الاسلامية من شأنها افساد هذا السعي التآمري الذي قاده الرئيس كلنتون.

والمستعجلون كثيرون لكن أكثرهم استعجالاً هو الرئيس عرفات الذي نتفهم دواعي استعجاله حيث أنه في الوضع الصحي والنفسي الذي يضغط عليه من أجل أن تولد الدولة الفلسطينية على يديه، ويقال تاريخياً إنه هو الذي جعل من الثورة سلطة وطنية ومن السلطة دولة. لكن هذا الاستعجال قد يؤدي الى التهلكة في الحد الأقصى وبذلك لا تعود الندامة تنفع في شيء فضلاً عن أننا حتى بالنسبة الى الجزء الذي يخص الفلسطينيين دون غيرهم من العرب والمسلمين لا ندري كيف سيجترح أبو عمار هذه المعجزة وكيف يمكن أن يرضى على نفسه أن يقال بأن رئيس دولة فلسطين ـ هذا افتراضاً بأنه نال الذي تمناه ـ هو عملياً رجل أرباع الحلول وأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي صارت له دولة الاّ أنه من دون وطن.

ومع أن هذا الكلام هو من النوع الذي يدمي النفس والوجدان، الا أنه الكلام الحقيقي الذي يجب قوله بعد هذه المسيرة المهينة منذ كامب ديفيد الأولى والتي ليس فيها محطة واحدة تؤكد أن قضايا الأوطان ليست سلعة تباع وتُشترى سواء كان البيع في سوق النخاسة أو من خلال البورصات السياسية الدولية التي تدار عملياتها عبر المبعوثين والدبلوماسيين الذين كانوا في معظمهم يهوداً مؤيدين لاسرائيل أو غير يهود لكنهم بأفعالهم كانوا اسرائيليين أكثر من الاسرائيليين أنفسهم. ولا موجب لضرب الأمثلة. فالقائمة طويلة. والمواقف مسجَّلة بالصوت والصورة. والمكائد مزدهرة في السر وفي العلن. والسماسرة على من يشيل... على نحو المثل المصري الشائع.

ونعود مرة أخرى الى ما بدأنا به هذا المقال لنكرر الحمد لله بأن قمة الفصل الأخير من اعلان التفليسة لم تنعقد على نحو ما كان من المقرر عقدها في شرم الشيخ يوم الخميس الماضي ثاني أيام عيد الفطر المبارك، والاّ كان سيقال وبلهجة حازمة ان الفلسطينيين صاموا نصف قرن وفطروا على طبق من رمال شرم الشيخ. معاذ الله لمثل هكذا نهاية!