ثقافة تحديد الخسائر

TT

في حزيران (يونيو) الماضي اعلن جورج بوش ان الولايات المتحدة «لن تتسامح» حيال بناء قوة نووية في ايران. وقبل ذلك كان قد اعلن في كانون الثاني (يناير) العام 2002 ان ايران جزء من «محور الشر» مع العراق وكوريا الشمالية. ومن ثم بدأت وكالة الطاقة النووية الدولية في توجيه التحذيرات الى طهران. وانضم الاتحاد الاوروبي الى المطالبة بأن تقبل ايران عمليات التفتيش الدولية. وراح الدكتور محمد البرادعي يقوم بالزيارة تلو الاخرى الى العاصمة الايرانية، ناقلاً التحذيرات. وانتقد البعض بيانات البرادعي، ظنا منهم انه يملك متجراً او مخزنا يسمى الوكالة الدولية للطاقة النووية. والرجل ليس سوى موظف عند مجموعة من الدول التي تقرر السياسات وتقر المعاهدات وترسم الخطوط الصريحة لمثل هذا المنصب «الفني» او «التقني». انه ليس منصباً سياسياً مثل الامانة العامة للامم المتحدة. وهو ليس وزارة او رئاسة وزراء.

وفي اي حال ليس هذا المهم. المهم ان ايران واجهت الحملة الدولية يوماً بعد يوم. ورفضت الرضوخ للمطالب. وقالت انها لن تسلم الوكالة الدولية البيانات التي تطلبها حول الانشاءات النووية التي تحققت حتى الآن. لكن عندما بلغت المواجهة ذروتها، فاجأت طهران العالم، واعلنت قبولها بشروط الوكالة ومطالبها.

لم تكن هذه السابقة الايرانية الاولى. فقد كان الامام الخميني في اوج نفوذه عندما قبل الهدنة مع العراق. وقال انه كمن يتجرع السم ومع ذلك فسوف يقبل انهاء الحرب. لقد تطلع فرأى ان الحسم يستحيل وان عشرات الآلاف الذين قضوا في القتال سوف يتبعهم آلاف آخرون. ولن تحل المسألة بل ستزداد مأساوية، لان دولة في حجم اميركا تدعم العراق على نحو كامل. فيما الاتحاد السوفياتي وفرنسا والبرازيل وجنوب افريقيا يزودونها السلاح. تطلع مؤسس ايران الحديثة في الوقائع وقرر ان يقبل النتيجة القاسية. والآن للمرة الثانية تتخذ طهران قراراً في هذا الحجم. وبدل ان تذهب الى مواجهة اميركا في ام المعارك هي والنشامى والماجدات، قررت ان توفر على شعبها عبث المواجهات غير المتكافئة، وفي العلن بدت ايران متراجعة بينما قد تكون سراً خلف معظم ما يحدث ضد الاميركيين في العراق. وليس من شك في انها القوة الرئيسية الفاعلة في الوضع العراقي اليوم. لكنها لا تصدر بياناً تفاخرياً واحداً بل تكتفي بإصدار بيان تراجعي.

مرة اخرى، ربما كان هذا هو الفارق الاساسي بين العقلية الايرانية والعقلية العربية. ثقافة الواقعية وعادة تقبل الحقائق وتجاوز الخيال اللفظي الى قبول الوقائع. فالسياسة ليست كلها انتحاراً. ولا هي دائماً دفع الناس الى الموت. ففي المرحلة الاولى من الحرب مع العراق حاول الايرانيون اغراق صدام حسين بجثث ضحاياه، على طريقة ماوتسي تونغ. وعندما اخفقت هذه الوسيلة في صد العراقيين انتقل الامام الخميني الى «تجرع السم» معتبراً ان حصر الهزيمة انتصار.

ماذا لو قبل العراق الخروج من الكويت تلبية لقرارات مجلس الامن والجامعة العربية ومبادرات العشرات من الدول وكبار رجال الدول والامين العام للامم المتحدة؟ اين كان يمكن ان يكون العراق اليوم؟ بل اين كان يمكن ان يكون حال العرب؟ بل اين كان يمكن ان يكون صدام حسين؟