.... وهل الإنصاف في معاقبة ضحايا صدام؟

TT

لم أتحمس في البداية لفكرة التعليق او الرد على تعليق الدكتور عبد الخالق حسين (منشور على هذه الصفحة) على مقال لي نشر في اسبوع سابق. فليس من اللازم ان يرد كاتب على قارئ الا اذا كان ذلك ضروريا. وأي قارئ له الحق في ان يقول رأيه في ما يقرأ، ولا يهم ان كان مختلفا او مؤتلفا في هذا الرأي مع رأي الكاتب. بل ان الرأي المختلف هو الأحق بالنشر فالرأي المؤتلف لا نفع كبيراً فيه لأنه لا يقدم جديدا فيما الرأي المختلف يفتح نافذة جديدة على فضاء القضية المطروحة.. وهذه هي اهمية الرأي الآخر.

لم أتحمس في البداية للرد على الدكتور حسين لانني توقعت الا نكون مختلفين في الرأي. وهذا الانطباع لم يتكون عن صلة وثيقة او معرفة معمقة بالرجل الذي لم التقه الا مرة واحدة او مرتين، وانما تبلور من خلال ما قرأته له من مقالات نشرت في بعض الصحف واتصالات هاتفية محدودة بيننا كان فيها بالغ الكرم بامتداح ما اكتبه، فاستقر رأيي على انني اشاطر الدكتور حسين الكثير من الآراء بشأن العراق، وهذا ما يجمع بيننا وبين الكثير من الوطنيين العراقيين الذين ناهضوا دكتاتورية صدام حسين وتطلعوا الى نظام ديمقراطي استحقه العراق منذ زمن بعيد.

وبالفعل لما قرأت تعليق الدكتور حسين وجدت اننا لا نختلف حول جوهر القضية المطروحة. وما حمّسني لكتابة هذا الرد هو شعوري بأن ثمة سوء فهم لدى كل الذين انتقدوا مقالتي أو احتجوا عليها ـ ربما كان ناجما عن قصور في حسن التعبير مني ـ لمقاصدي مما كتبت. ولكن قبل ان اوضح لا بد من التأكيد بأنني اعتقد عن قناعة وايمان بأن المعتدي ـ اي معتد ـ لا بد ان يدفع ثمن عدوانه وان الضحية لا بد ان يعوض عما لحقته من اضرار مادية ومعنوية.

الحكومة العراقية في عهد صدام اعتدت على ايران ثم على الكويت وقبلها على الاكراد، بل على عموم الشعب العراقي. وعلى الهامش تضررت دول وشعوب وافراد وشركات مختلفة. وهؤلاء جميعا ضحايا ولهم كامل الحق في التعويض عن الخسائر والاضرار التي نزلت بهم. فمن يعوضهم؟ هل من العدل والحق ان يقال لهؤلاء جميعا ان حقوقهم انتهت بسقوط نظام صدام؟ هل كان عليهم ان يكافحوا للابقاء على صدام والحصول على التعويضات؟

الحق ان الدولة العراقية التي باسمها غزا صدام ايران والكويت وحارب الاكراد مسؤولة عن تعويض كل ضحايا العهد السابق، عراقيين وغير عراقيين. والحكومات التي ستتولى السلطة بعد انتهاء الفترة الانتقالية واستعادة السيادة والاستقلال مسؤولة ـ باعتبارها وريثة العهد السابق ـ عن اعادة الحقوق الى اصحابها والتعويض عن الضحايا والمتضررين.

ربما سيتنازل البعض من العراقيين عن حقوقهم كلها او بعضها مكتفين بالتعويض المعنوي الكبير الذي يمثله الخلاص من عهد صدام الاسود. وبالتأكيد سيكون التعويض المعنوي تاما كاملا اذا ما انتقل العراق الى عهد ديمقراطي حقيقي. لكن هذا لا يعني ان على الآخرين (غير العراقيين) ان يتنازلوا هم ايضا عن حقوقهم..فقط لان صدام لم يكن منتخبا من الشعب العراقي عندما ارتكب عدوانه عليهم. هل كانوا هم من دعا صدام الى غزو بلادهم والاستيلاء على املاكهم وانتهاك اعراضهم وحقوقهم؟

ادرك ان ليس في وسع العراق، ولو بعد الف عام، ان يؤدي كل الديون والتعويضات المترتبة على عبث صدام وسياساته العدوانية الهوجاء. ولهذا سيترتب على الحكومات العراقية المقبلة ان تتفاوض مع الدول الاخرى للتوصل الى حل ما لا يحمل الاجيال العراقية القادمة عبء ذلك العبث الجنوني ولا يصادر بالكامل حقوق الضحايا. وشخصيا اعتقد ان الحل يمكن ان يكون باعطاء الدول والشركات والافراد الدائنين افضلية في العلاقات الاقتصادية مع العراق، خصوصا خلال مرحلة اعادة الاعمار، وفي الابقاء على جزء من الديون (ربما بضع مئات الملايين من الدولارات) وتقسيطها على نحو مريح (100 سنة ـ 200 سنة) والاعلان سنويا عن المبالغ المدفوعة للتذكير بعبث صدام الجنوني وعبث جماعته من القومجية العرب والاصوليين المتطرفين الذين يواصلون الآن الجنون نفسه.

اعتقد ان هناك حاجة لعمل رمزي من هذا النوع لنا نحن العراقيين ولامثالنا. والمقارنة التي عقدها الدكتور حسين للاستنتاج بأن العراقيين سيكونون محصنين ضد الدكتاتورية مثلما تحصن الالمان واليابانيون لا اظنها صحيحة، فثمة فارق جوهري بيننا وبينهم.. انهم مجتمعات قطعت شوطا طويلا في طريق التحضر فاصبحت مجتمعات ذات عقول راجحة في اجسام سليمة، اما نحن فلم نزل مجتمعات بعقول عليلة واجسام سقيمة.. لم نزل عند الخطوة الاولى على طريق التحضر او نكاد، بل ربما عدنا القهقرى الى ما قبل ذلك...بفضل صدام وامثاله واصحابه. أليس كذلك؟