الخطر أن يصبح الزمن عدوا لعملية السلام

TT

أكد المؤتمر السنوي السابع والخمسون لمعهد الشرق الأوسط الذي عقد في واشنطن الاسبوع الماضي الانقسام الذي يزداد بروزا داخل الادارة الاميركية. وكشف ايضا تعدد الاتجاهات داخل كل مؤسسة. انما، ورغم كل التخبط، كانت اصابع الجميع موضوعة على الجراح التي تنكأ علاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط، وإن كانت الاصوات لا تلتقي على اي موجة.

كان المؤتمر عن الشرق الأوسط بكل ما فيه من براكين متفجرة او يمكن ان تنفجر، وموقف الولايات المتحدة، رغم المسافة البعيدة، وسط هذه البراكين.

وقد يكون بركان عمليات 11 ايلول (سبتمبر) هو الصخرة التي قذفت حمم البراكين الأخرى. افتتح المؤتمر كلايد برستوفيتس من مؤسسة «اكونوميك ستراتيجي» بسؤال: لماذا يكرهوننا؟ ومع تركيزه على تاريخ 11 سبتمبر فانه اصر على ابراز تاريخ 12 سبتمبر من عام 2001، ففي ذلك التاريخ قال العالم كله لاميركا انه لا يكرهها. فقد نُكست الاعلام في فرنسا، وطار جاك شيراك الى نيويورك ليكون اول رئيس اجنبي يصل الى «غراوند زيرو»، وعنونت صحيفة «الموند» صفحتها الأولى بعبارة: «كلنا اميركيون»، وغرقت السفارات الاميركية في لندن وبيجينغ وموسكو وطوكيو وسنغافورة بباقات الزهر. وكما قال كلايد برستوفيتس، لو ان قصر باكنغهام او برج آيفل او مقر الامبراطور في طوكيو كان الذي تعرض للعمليات الارهابية بدل برجي مركز التجارة العالمي، لما كانت مشاعر العالم تفجرت عاطفة ودعما، كما لمست اميركا في 12 سبتمبر من ذلك العام. وقال كلايد برستوفيتس، انه في لقاءات اجراها في القاهرة وبيجينغ سمع السؤال الذي يطرحه الاميركيون الآن، انما من قبل الشعوب الأخرى: «لماذا تكرهوننا؟». واختصر الوضع بما سمعه من السياسي البلجيكي اتيان دافينيون، واحد من حكماء اوروبا وصديق اميركا، قال دافينيون: «الذي يقلقني، هو انه اذا عدنا الى الحرب العالمية الثانية، فقد كان الاميركيون اكثر قوة نسبيا مما هم عليه الآن، كانوا يمثلون نصف الاقتصاد العالمي، كانوا القوة النووية الوحيدة في العالم وكان في استطاعتهم فعل اي شيء يريدون. وما أثار الأوروبيين ايجابيا، ان الاميركيين انذاك حددوا مصالحهم بالنسبة الى مصالح الدول الأخرى وصوروا رؤيتهم للعالم على اساس سيادة حكم القانون متشابكا مع المؤسسات الدولية التي اوجدوها: الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي واتفاقية الغات، ومحمياً بالتحالفات الدولية: حلف الناتو والاتفاقية الامنية الاميركية ـ اليابانية. لقد جعل الاميركيون وبالرغم من قوتهم، العالم يشعر بالأمان لأنهم اعتمدوا درجة من التوافق العام والتشاور، وصحيح انهم حققوا دائما ما أرادوه، فقد كانوا الأقوى، والعلاقات بينهم وبين العالم لم تكن دائما منسابة، لكن كان هناك دائما نوع من المشاورات وحد من التوافق العام.. اما اليوم، فقد ادار الاميركيون ظهورهم لكل تلك المسائل، وبدل التحالف يريدون تحالف الارادات، وبدل الردع يريدون الضربات الوقائية، وبدل مشروع مارشال وخطة دودوج، هناك تشاؤم كبير من بناء الدول. وهذا أمر يثير القلق، لاننا في اوروبا نعرف ذلك العالم! فمن هناك أتينا، ولهذا رحبنا يومها برؤية ترومان واستيسون وايزنهاور. ولذلك فان العودة الى ذلك العالم ليست ابدا جذابة».

مع وجهة النظر السوداوية هذه، بدا كلايد برستوفيتس كمن يحذر العالم من احتمال حرب تكون اقسى من الحرب العالمية الثانية، فبسبب مثل هذه العنجهية وعدم التلاقي خاضت اوروبا حربين عالميتين.

ومن كلام السياسي البلجيكي، الذي يحمل الكثير من التحذير والقلق، الى ارون ميللر الذي يرأس الآن مؤسسة «بذور السلام» والذي استقال من عمله في الادارة في بداية هذه السنة، بعدما عمل مدة 30 سنة في الخارجية ورافق الوزير جيمس بيكر الى مؤتمر مدريد للسلام، وكان الى جانب الرئيس الاميركي بيل كلينتون في مفاوضات كامب ديفيد الشهيرة عام 2000 ما بين رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.. وفشلت، (تجدر الملاحظة هنا، ان ايهود باراك موجود الآن في واشنطن يحاول تسويق نفسه مجددا للعودة الى السلطة في اسرائيل). اكد ارون ميللر على ست ملاحظات لا بد منها للوصول الى حل للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، واستشهد بالرئيس جون كنيدي الذي كان مثاليا من دون اوهام، وبالتالي ليس هناك من عدالة مثالية. ورأى ان المخرج لهذا الصراع يكون باقامة دولتين، «انه الحل الوحيد»، واضاف: «ان خوفي هو من خطر هذه السياسة القائمة التي ستجعل الزمن يصبح عدوا لعملية السلام وليس حليفا». وقال ميللر ان التوصل الى تسوية يكون عبر عملية المفاوضات، «لا اتكلم عن مفاوضات قائمة على مسار عملية ما، لأن المفاوضات التي يجب ان يشترك فيها الفلسطينيون والاسرائيليون يجب ان تكون قائمة على توازن المصالح وليس على توازن او عدم توازن القوى» وقال، هو الذي شارك عن قرب وعمق في ملف الشرق الأوسط، ان اتفاقية السلام المصرية ـ الاسرائيلية، واتفاقية السلام الاردنية ـ الاسرائيلية، رغم ما يشوبهما من عيوب واخطاء ورغم انهما غير كاملتين، إلا انهما وضعتا على توازن المصالح، ولهذا بقيتا قائمتين.

في حالة اسرائيل والفلسطينيين، هناك القوي والضعيف. وهذا المزيج من قوة القوي (اسرائيل) وقوة الضعيف (الفلسطينيون) قاتل، لقد اوجد وضعا غير فعال بحيث اصبح كل طرف، يعتقد انه يحتكر الألم والحقيقة والعدالة، ولم يعد يرى الطرف الآخر.

وتصويرا للواقع المرير، اورد ارون ميللر ما يحكى عن الكاتب المسرحي الفرنسي غي دوموباسان الذي في نهاية القرن التاسع عشر حمل حملة عشواء ضد بناء برج آيفل في باريس، ومع هذا، بعد انتهاء البناء صار دو موباسان يذهب يوميا لتناول غدائه هناك. وبعد ستة اشهر تشجع احدهم وسأله: لماذا تذهب الى هناك وانت تكره المكان؟ اجابه: لأنه المكان الوحيد في باريس الذي لا أراه.. وربط ميللر بان دوامة دو موباسان هي نفسها دوامة الاسرائيليين والفلسطينيين في المواجهة والصراع، اي رفض كل طرف رؤية الآخر.

والملاحظة المهمة التي اكدها ميللر، انه في الخمسين سنة الأخيرة من القرن الماضي، كانت هناك حرب عربية ـ اسرائيلية في كل عقد، 48، 56، 72، 82.. باستثناء عقد التسعينات والسبب كما قال انه كان عقد مدريد في ظل الادارة الجمهورية، وعقد اوسلو رغم كل اخطائه، والاتفاقية الاردنية ـ الاسرائيلية، والمفاوضات السورية ـ الاسرائيلية.. ودعا الى ضرورة عودة واشنطن الى اعتماد سياسة الراعي لكل المفاوضات التي يجب ان تقوم على توازن المصالح، كي يتوقف الاطفال الفلسطينيون والاسرائيليون الذين يشاركون في «بذور السلام» من العودة «عن المستقبل الى الماضي المؤلم».

وفي حلقة الشرق الأوسط وانتخابات الرئاسة الاميركية عام 2004، «نشب» صراع حقيقي تقريبا بين فرانك غافني من «مركز الدراسات الامنية»، وإم.جي. روزنبرغ من «منبر السياسة الاسرائيلية». قال غافني انه عائد لتوه من مؤتمر في القدس ناقش فكرة «بناء السلام على الحقيقة»، ورأى ان اقسى حقيقة عن الشرق الأوسط والتي تترك تأثيرها على استقرار المنطقة والديمقراطية، هي الأنظمة التعسفية التي تحتاج دائما الى عدو خارجي، ورأى ان تنازل اسرائيل عن الأراضي لن ينهي المشكلة ويدفع المنطقة الى ما نحلم به، و«ليس بالتالي من المنطق ان نضغط على اسرائيل»، وعرض خريطة لفلسطين، لا تظهر فيها اسرائيل، يعرضها ياسر عرفات في مكتبه. وبدا غافني كمن يريد ابقاء الوضع في الشرق الأوسط على حاله حتى الانتهاء من الحرب على الارهاب، وبانتظار «تحقيق السلام بين المسلمين وغير المسلمين وبين ابناء الشرق الأوسط والعالم (...) وانه أمر صعب جدا»، كما قال.

وبطريقة غير مباشرة رد عليه إم.جي. روزنبرغ، الذي قال، انه ليس كل اليهود الاميركيين يريدون عدم تدخل اميركا، «نريد من الرئيس ان يتعاطى فعليا لايجاد حل... اننا في حالة يأس مدقع». وقال «ان الطريق الوحيد أمام اسرائيل هو عبر اقامة دولتين وعبر تدخل فعلي لاميركا». وقال روزنبرغ انه قام وعائلته عام 1999 (زمن اوسلو) بزيارة اسرائيل والمدن الفلسطينية جنين وطولكرم ورام الله، وكانت هناك سعادة وكان هناك امل... ولم يكن هناك قتلى، لا فلسطينيون ولا اسرائيليون.. اما اليوم فلم يعد اليهود الاميركيون يفكرون بمجرد الزيارة خصوصا الشباب.. هؤلاء اليهود الاميركيون انفسهم، كان آخر رئيس جمهوري صوتوا له، هو وارن جي. هاردي عام 1928.. واليوم اقنع الجمهوريون اليهود في اميركا انهم حزب الأمن الوطني، «وبعض اليهود يعتقد ان أمن اسرائيل معلق على اميركا وعلى موقفها العدواني في العالم».

كثيرون تكلموا في المؤتمر، وبالرغم من كلماتهم الحاسمة ومناقشاتهم، فإن النتيجة: ضياع ويأس ومجهول.