الكتاب العربي في فرانكفورت

TT

ذهلت خلال رحلة باريسية الأسبوع المنصرم من العدد الهائل من الكتب المعروضة حول الاسلام والعرب في المكتبات الفرنسية هذا العام.

وبدا لي أن مكتبات الحي اللاتيني العريقة غدت متخصصة في عرض مثل هذه المؤلفات التي يبدو أن الطلب عليها قد تضاعف كثيرا بعد أحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001، التي خلفت ـ قبلنا أو كرهنا ـ شرخا عميقًا في العلاقات العربية ـ الغربية، وكان ذلك هو موضوع الندوة المتميزة حول «الاسلام والغرب» التي شاركت فيها، وهو ما سأعود اليه في الأسبوع المقبل بحول الله.

وتتوزع الكتب المعروضة الى أقسام ثلاثة أساسية هي: الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية المعروفة التي تبدو انها قد استعادت حيويتها وخرجت الى المواجهة بعد عقود من الاهمال، والكتابات الجيواستراتيجية حول المجال العربي الاسلامي بعد حربي أفغانستان والعراق والدراسات ذات الصلة بالدين الاسلامي من حيث منظمته العقدية والقيمية والظواهر السياسية والمجتمعية الراهنة المرتبطة به «وعلى الأخص الارهاب والتطرف».

وليس من همنا التعليق على هذه الكتابات «وقد تناولنا جانبًا منها في الندوة المذكورة»، وانما حسبنا الاشارة الى سمتين أساسيتين طبعتها هما.

ـ الموقف العدائي القدحي في الغالب، سواء بتكرير الأحكام الاستشراقية القديمة المألوفة أو باسقاط ظواهر التطرف والارهاب بجوهر المنظومة العقدية والسلوكية الاسلامية وبتركيبة المجتمعات العربية.

ـ صدرت الكتابات المذكورة من لدن كتاب غربيين في الغالب، وكان اسهام المفكرين والباحثين العرب والمسلمين فيها، هامشيا لا يكاد يذكر.

ومن السهل بطبيعة الحال تحميل الطرف الغربي مسؤولية غياب الكتاب العربي الاسلامي، وما ينتج عن هذا الغياب من أثر سلبي على صورة العرب والمسلمين، بيد أنه من الخلف انكار حقيقة تقصيرنا الفادح في تقديم ثقافتنا ونسقها المعرفي القيمي، للآخرين.

فصناعة الكتاب في الوطن العربي ما زالت هشة وضعيفة، وحركة الترجمة محدودة وقاصرة، والمؤلفون الذين يكتبون باللغات العالمية الأساسية قليلون نادرون.

وقد سجل هذا الواقع المر تقرير التنمية الانسانية العربية الصادر هذه الأيام، الذي ذكر على سبيل المثال ان الكتاب العربي الأكثر رواجًا لا تزيد مبيعاته عن الخمسة آلاف نسخة، في حين تتراوح الكمية العادية المطبوعة من الأعمال الابداعية ما بين ألف وثلاثة آلاف نسخة، وهي أرقام هزيلة بالنسبة لأمة تتكون من 270 مليون فرد يعيشون في 22 دولة.

ويشير التقرير الى أن البلدان العربية مجتمعة أنتجت عام 1991 5600 كتاب مقابل 102000 كتاب في أمريكا الشمالية و42000 في أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، ولذا خلص التقرير الى أن الانتاج العربي للكتاب متدن الى حدوده الدنيا بالنسبة لحجم السكان وبالمقارنة مع الدول الأخرى.

كما يبين التقرير أن حركة الترجمة العربية ما زالت مشوبة بالفوضى والضعف، فكان متوسط الكتب المترجمة لكل مليون شخص من العرب في الثمانينات قد ساوى 4.4 كتاب أي أقل من كتاب واحد للسنة الواحدة، بينما بلغ في الفترة المذكورة ذاتها 519 كتابًا في المجر و920 كتابًا في اسبانيا.

ان هذا الوضع القاتم يفسر جزئيًا غياب الثقافة العربية عن المحيط العالمي وما يستتبع هذا الغياب من تشويه ودس وثلب تتعرض له هذه الثقافة.

ولذا لا يمكن لهذا السبب التقليل من المكسب المهم الذي حصل عليه الكتاب العربي (وتلك حالته) باختياره ضيف شرف في أهم معرض عالمي للكتاب أي معرض فرانكفورت للسنة القادمة. وقد تقرر ان تنسق منظمة الألكسو المشاركة العربية المرتقبة، وجرت لهذا الغرض تظاهرة أولية يوم 9 أكتوبر (تشرين الاول) في فرانكفورت على هامش افتتاح فعاليات السنة الجارية.

وقد أحسن مدير عام المنظمة المنجي بوسنينة التعبير عن فلسفة المشاركة العربية المنشودة بتبنيه الطابع التعددي الثري الذي يسم الثقافة العربية التي انفتحت في الماضي على كلّ الروافد الحضارية والفكرية، وشارك فيها فلاسفة وعلماء من خلفيات دينية شتى، كما تنوعت نظمها المعرفية وتشكيلاتها الخطابية فجمعت بين مختلف الصناعات الأدبية والفلسفية والعلمية وكان للتراث الانساني الرفيع دورمركزي فيها.

وتلك هي الأبعاد التي يتعين ابرازها اليوم في الساحة الغربية التي كثيرا ما تماهي بين الاسلام والتعصب والتطرف، ولا ترى في العربي الا «ارهابيا بالقوة» أو «بائع نفط متعجرفا جشعا.

وبحسب الرؤية التي عبر عنها بوسنينة فان المشاركة العربية لن تقتصر على ابراز كنوز وثروات الماضي، وانما ستتطرق الى ابداعات الحاضر وامكانات وآفاق المستقبل مع تكريس فكرة انفتاح الثقافة العربية على محيطها الدولي ومشاركتها الفاعلة فيه، وتجسيد هذه الفكرة عبر أنشطة ثقافية وندوات فكرية ومعارض فنية مصاحبة تعكس صورة مشرقة للانسان العربي في همومه وواقعه الفعلي.

بيد ان نجاح المشاركة العربية المطلوب حتى لا تضيع هذه الفرصة الاستثنائية على العرب كما فاتتهم فرص أخرى كثيرة مرهون بالتعامل الجيد مع الاستحقاق المنظور، مما يتطلب عدة مقتضيات عاجلة، من بينها الوفاء بالتزامات الدول العربية المالية والتنظيمية ازاء الجامعة العربية ومنظمتها الثقافية، والعمل على تقديم الانتاج الفكري والأدبي الرصين الذي يختلف نوعيا عن الكتابة الدعائية الساذجة التي لا تقنع خصمًا ولا تطمئن صديقًا، والحرص على ابراز المنتوج الثقافي العربي في بُعده الانساني الرفيع دليل حي على قدرة منظومتنا الحضارية في استيعاب الآخر والانفتاح عليه والحوار الندي معه.

انها استحقاقات وتحديات جسيمة تتطلب تضافر شتى الفاعلين الثقافيين لانجاح مبادرة تستحق في ذاتها التنويه، بدلا من التباكي والتذمر تعبيرا عن ما يبدو حصارًا عدوانيًا مضروبًا على ثقافتنا واصداراتنا الفكرية والابداعية.

وقد كان من المثير أن تابعنا هذه السنة السباق المحموم بين كاتبين عربيين للحصول على جائزة نوبل في الآداب هما الشاعر السوري أدونيس والروائي المغربي الطاهر بن جلون بعد الجائزة اليتيمة التي حصل عليها نجيب محفوظ قبل خمس عشرة سنة، واعتبرنا ان التكريم المرتقب اعتراف مطلوب بحيوية الثقافة العربية وبمكانتها الانسانية في مثل هذه الظروف القاتمة من علاقات العرب بالعالم، كانت خيبة أملنا كبيرة بعد فوز الروائي الجنوبي الافريقي جون ماكسويل كويتزي بالجائزة.

ولا شك ان من بين كتابنا ومبدعينا من يستحق عن جدارة الجائزة الكبيرة، بيد أن تكريم الروائي الجنوب الافريقي هو في ما وراء مزايا ابداعه وكتاباته تكريم مستحق لاسهام بلاده المتميز في الساحة الثقافية العالمية في الوقت الذي لم يتمكن العرب بعد من ربح هذا الرهان الحيوي.

[email protected]