العراق ما بين جمهورية الخوف والدولة الفاشلة..

TT

كتب كنعان مكية عام 1989 من منفاه تحت اسم مستعار كتابا بعنوان «جمهورية الخوف» حول الاوضاع في العراق تحت ظل دكتاتورية الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. إلا ان الاكاديمي العراقي المولد، الذي عاد عقب سقوط نظام صدام حسين للعيش في بغداد في المنزل الذي صودر من والده، يقول الآن ان حساباته كانت خاطئة إزاء مدى التغيير الذي حدث في العراق منذ تأليف كتابه قبل ما يزيد على عشرة اعوام.

يعترف كنعان مكية الآن بأنه «لم يكن يفهم تماما الأبعاد الحقيقية لما كان يجري، فالدولة الاستبدادية تحولت تحت ظل النظام المخلوع الى دولة مجرمة».

تلقي ملاحظة كنعان مكية بظلالها على التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة حاليا في العراق، كما تلقي بظلالها على الجدل الدائر حول فشل اجهزة الاستخبارات الاميركية خلال مرحلة ما قبل الحرب. إلا ان تعليق مكية له اهميته التي تتعدى حدود العراق عندما نتحدث عن الحكومات القمعية في دول مثل كوريا الشمالية وبورما وبيلاروس وكوبا. ماذا يعني للدولة الاستبدادية ان تصبح مؤسسة مافيا؟ وما الذي يؤدي الى تطور الدولة الى هذا الشكل؟ وما انعكاسات ذلك على فرص خروج الدولة من هذا الوضع؟

اعترف مسؤولو ادارة الرئيس جورج بوش بدهشتهم ازاء الانهيار السريع والمفاجئ لمؤسسات النظام العراقي السابق إثر سقوط العاصمة بغداد. اذ لم تكن قوات الحرس الجمهوري وحدها هي التي ذابت، فقد اختفت ايضا قوات الشرطة واجهزة الخدمة المدنية بكاملها.

تعتقد بولين بيكر، رئيسة مؤسسة «صندوق السلام» بواشنطن، ان هذه المفاجأة بانهيار القوات والمؤسسات العراقية تشكل في حد ذاتها خطأ استراتيجيا فادحا في ما يتعلق بالحرب نفسها. وتعتقد بولين بيكر ان ادارة بوش افترضت خطأ ان قوة وسطوة صدام في الحكم تعني وجود دولة قوية ايضا. ويعمل «صندوق السلام» الذي تترأسه بولين بيكر على إعداد تقرير حول «العراق كدولة فاشلة». وتوصلت المنظمة الى نتيجة مفادها ان «الاستراتيجية السريعة» لإعادة بناء العراق لن تكلل بالنجاح.

وتعتقد بولين بيكر ان عملية التوصل الى الاسس التي ستقوم عليها عمليات إعادة تشكيل مؤسسات الدولة في العراق ستستغرق عامين على الاقل، لكنها ترى ان هذه العملية ستتحقق اذا ابتعدت الولايات المتحدة عن «نموذج تغيير النظام» وشرعت في إجراء تحول قائم على الاعتراف بوضوح بأننا في حاجة الى إعادة بناء الدولة.

أعتقد ان بولين بيكر على صواب في ما يتعلق بالحسابات الخاطئة ولكن حتى بأثر رجعي لا غبار على افتراض وجود دولة قوية وراء حكم الرجل القوي. اذاً، ماذا كان يحدث داخل «جمهورية الخوف»؟

يقول مكية انه يعتقد الآن ان خسارة العراق في حرب الخليج الاولى كان بمثابة نقطة تحول، إلا ان آيديولوجية الدولة لم تتغير. كما ان فرض مناطق حظر الطيران حد من قدرة النظام العراقي السابق في الوصول الى الكثير من موارد واراضي الدولة. ان جهاز الدولة، الذي بات يشعر بضعفه ويشكك في مدى قوته وسطوته، بدأ في الاهتمام بنفسه.

ويرى مكية ان الهجمات على الجنود الاميركيين في الوقت الراهن هي امتداد طبيعي لـ«بلطجة» النظام السابق. واوضح «ان هؤلاء المجرمين سرقوا المصارف وذابوا وسط الجماهير». وهم الآن يستأجرون الاشخاص لتنفيذ العمليات.

والسؤال الثاني هو هل الخطأ الاساسي بخصوص وضع الدولة العراقية يجعل الحرب غير ضرورية؟ الاجابة عن هذا السؤال بالنسبة لمكية هي النفي «كان العراق كارثة تنتظر الانفجار». وهو يعتقد ان العراق يملك الفرصة الآن لأن يصبح «قصة نجاح» ديمقراطي ستكون ذات تأثيرات كبيرة على المنطقة بأكملها.

الا ان التحديات زادت، كما يعتقد، بسبب المدى الذي بلغه نظام صدام حسين في التحول الى عصابة اجرامية. وتكشف وثائق الميزانية التي تم العثور عليها منذ الاحتلال، ان الحكومة كانت تنفق المليارات على حمايتها وملايين فقط ـ وفي بعض الاحيان لا شيء ـ على المدارس او الرعاية الصحية.

وقال مكية انه في الوقت الذي ازدهر فيه النظام عبر التحكم في السوق السوداء وغيرها من النشاطات الاجرامية، فإن العقوبات الاقتصادية ادت الى افقار واهانة المواطنين العاديين. فالوقوف لساعات في طوابير للحصول على كمية محدودة من البيض تستنفد الطاقة بحيث لا يمكن للشخص القيام بأي شيء آخر. ويضيف مكية ان المدرسين الذين لم يحصلوا على مرتباتهم لم يكن لديهم من اختيار الا بيع الاجابات عن الاسئلة، «وقد انهار نظام تعليمي جيد».

ويختتم مكية كلامه قائلا ان العقوبات «ربما اضعفت قدرة الدولة على استعراض القوة عبر الحدود، ولكنها ربما ادت ايضا الى تقوية الطغمة الحاكمة ضد الشعب». وربما تؤدي العقوبات الى الاسراع بسقوط النظام، ولكن في الوقت ذاته تزيد من اجرامه، وقدرته على القهر.

وهو تذكار آخر على محدودية وسائلنا في مواجهة انظمة تهدد جيرانها وتقهر شعبها.

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»