أمِنَ الإنصاف معاقبة الشعب العراقي بجرائم صدام ؟

TT

لا أفشي سراً إذا قلت إني متابع لما يكتبه السيد عدنان حسين في «الشرق الأوسط» الغراء وذلك لما يتمتع به من تحليلات صائبة وجريئة وخاصة فيما يخص القضية العراقية. ويؤيد قولي هذا ما جاء في مقالته الأخيرة يوم2003/10/15 بعنوان «من يرفع الصوت ضد مقتدى الصدر؟»، والتي وضع فيها النقاط على الحروف كما يقولون. ولكني فوجئت به وهو ينتقل إلى موضوع آخر وفي نفس المقالة تحت عنوان صغير: «... قضية التعويضات». فبعد عرض موجز لقضية الديون والتعويضات التي ورط صدام حسين الشعب العراقي بها نتيجة لحروبه العدوانية، وموقف الدائنين والمديونين (العراقيين) منها، يقول: «فمن مصلحة العراق الا تطفأ هذه الديون والتعويضات تماما.. كيف؟»، ويجيب: «اذا تنازل الكويتيون والسعوديون والايرانيون والاماراتيون والروس والفرنسيون والآخرون عن هذه الديون والتعويضات سيصعب على الاجيال العراقية القادمة ان تحس بوطأة تركة صدام الثقيلة. وفي غمرة عدم الاحساس هذا قد يُبتلى العراق مرة اخرى بصدام جديد يندفع بالعدوان على جيران العراق واشقائه متذرعا بقضية قومية فيحظى بتأييد من قومجية وأصوليي ذلك الزمان يماثل التأييد العاصف الذي تمتع به صدام حسين من قومجية وأصوليي هذا الزمان». حقاً إنها لقسمة ضيزى.

فمن المعروف أن الشعب العراقي هو الآن أفقر شعب في أغنى بلد. والذي جعله أفقر شعب هو صدام حسين بسبب سياساته الطائشة وحروبه العبثية. وإذا صار لزاما على الشعب العراقي دفع هذه الديون والتعويضات، فهذا يعني أن الشعب محكوم عليه بهذا المستوى من الفقر إلى الأبد. وهذا يوفر الأرض الخصبة لتفريخ العشرات من أمثال بن لادن وصدام حسين. لقد أعذر من انذر! وإذا كان الشعب الأمريكي قد ساهم بعشرين مليار دولار كمساعدة منه في ميزانية العراق لعام 2004، أليس الأولى بالأشقاء العرب أن يحذوا حذو الأمريكان الأجانب لمساعدة الشعب العراقي؟ وإذا كان الجواب كلا، فلماذا يلوموننا عندما نقول إن الأمريكان والبريطانيين أكثر رحمة بحالنا من الأشقاء؟

فالحل إذاً في رأي السيد عدنان حسين هو معاقبة الشعب العراقي بما ارتكبه صدام حسين من جرائم لمنع ظهور صدام آخر. ولكن هل جاء صدام إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع ليتحمل الشعب العراقي وزر حكومته؟ ويقول الله سبحانه وتعالى «ولا تزر وازرة وزر أخرى». لقد ادعى بن لادن، ضمن تبريراته لقتل الأبرياء من الشعب الأمريكي في جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، كعقاب لهم لأن الشعب الأمريكي هو الذي انتخب حكومته ويدفع لها الضرائب ولذلك فالناخبون الأمريكيون مسؤولون عن أعمال الحكومة الأمريكية ويستحقون العقاب! وفق منطق بن لادن وهو منطق مفلوج يرفضه العقل السليم. ولكن المشكلة، ومع احترامي له، فقد ذهب السيد عدنان حسين إلى أبعد من فتوى بن لادن، ودون قصد منه، فقرر معاقبة الشعب العراقي وهو لم يكن له أي دور في تسنم صدام حسين للسلطة ولا في حروبه.

فالكل يعرف أن صدام حسين من ألد أعداء الشعب العراقي، ولم يأت للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع وإنما اغتصب السلطة بانقلاب عسكري «أبيض» تلاه عهد أسود غارق بأنهار من الدماء. فصدام عاقب الشعب العراقي بمصادرة أمواله واستدان عليها لشراء الأسلحة وشن الحروب وحوَّل وطنه إلى أكبر سجن رهيب في العالم وتسبب في قتل مليونين منهم وشرد خمسة ملايين آخرين وملأ العراق بالمقابر الجماعية والمحارق البشرية. وبعد كل هذه الكوارث التي أنزلها صدام حسين على العراقيين يقترح علينا السيد عدنان حسين، وهو عراقي قح، بمواصلة العقاب ليشمل حتى الأجيال القادمة كوقاية من ظهور صدام جديد!!

وكيف يمكن منع تكرار مجيء جلاد مثل صدام حسين في المستقبل؟ يجيب السيد عدنان: «ان تحس (الأجيال القادمة) بوطأة تركة صدام الثقيلة». ولكن ما ذنب الأجيال القادمة التي لم تر صدام حسين لكي تستحق هذا العقاب الشديد؟ وما ذنب الشعب العراقي والأجيال القادمة بجرائم صدام حسين حتى تنزل بحقها هذه العقوبة الأزلية من أجل «ان تحس بوطأة تركة صدام الثقيلة» وهل هذا هو الحل المنطقي والعقلاني؟

ثم، إذا تمتع صدام حسين بـ«التأييد العاصف من قبل قومجية وأصوليي هذا الزمان»، كما يقول السيد الكاتب فلماذا يعاقب الشعب العراقي على ذلك؟ ولماذا لم يعاقب «قومجية وأصوليو هذا الزمان أنفسهم؟» هل هذا هو الحل الصائب لمنع تكرار ظاهرة صدام حسين وهل هذا هو اللقاح الأفضل لمنع الإصابة بمرض الفاشية مرة أخرى؟

ويجدر بنا القول إن صدام حسين هو نتيجة للآيديولوجية القومية العربية وليس السبب. ولو لم يكن صدام حسين، لكان بعثي آخر قام بما قام به صدام حسين، مثل ناظم كزار أو طه ياسين رمضان الجزراوي أو عزت الدوري. فصدام كان قد تشرب بهذه الآيديولوجية وآمن بها بعمق. ونظراً لخصاله الشخصية المتميزة في الإجرام والقسوة والمنسجمة مع محتوى الآيديولوجية القومية، صار هو الشخص الأنسب لتبوؤ القيادة وترجمة الفكر القومي إلى واقع. فالوقاية لمنع هذه الكارثة في المستقبل ليست عن طريق معاقبة الشعب العراقي وأجياله القادمة بدفع فواتير الجلاد، وإنما بشن حملة تثقيفية تنويرية إنسانية معادية للفاشية والعنصرية ونشر روح التسامح والترويج للحداثة والديمقراطية وروح الإخاء مع الشعوب في العالم. وذلك عملاً بالآية الكريمة: «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

كذلك يمكن الاستفادة من مثال طبي علمي بهذا الخصوص. يحتاج الأطفال إلى لقاح ضد بعض الأمراض الفتاكة المعدية مثل الحصبة والجدري. ولكن المصاب بهذين الوباءين وسلم منهما لا يحتاج إلى لقاح وقائي، لأن المصاب بهذا الداء قد اكتسب المناعة مدى الحياة وهذه حقيقة علمية معروفة. وكذلك الفاشية، فالشعوب التي ابتليت بها وتخلصت منها، اكتسبت مناعة دائمة ضدها. فألد خصوم الفاشية والنازية هما الشعبان الإيطالي والألماني.

* كاتب عراقي مقيم في انجلترا