العراق للعراقيين.. لا!!.. لِمَ لا؟!

TT

في هولندا، حيث أقمت لعدة سنين معززا مكرما، بيت لائق، مرتب يقيم الأود، واصدقاء يتوفرون على كم كبير من المودة، وساحة مفتوحة لاقامة المعارض، والانشطة الفنية المعبرة عن اختلاف الثقافة، والهوية، وفوق هذا وذاك حرية كبيرة في الحركة والتنقل بين دول اتحاد «شنغن» الأوروبية.

آنذاك وفي سنيِّ اقامتي الأولى قلت لزميلتي الهولندية السيدة «آدري برون» التي انتخبناها مديرة لمؤسسة (اصدقاء ثقافة وادي الرافدين): «عندما نتحرر من نظام صدام، سنرفع شعار (العراق للعراقيين)».

نظرت السيدة برون اليَّ باستغراب، وقالت: «الا ترى بأن في هذا الشعار جانبا من العنصرية، والانانية؟».

أجبتها: «لك الحق في ان تقولي هذا، لانك لم تشعري في يوم من الايام بأنك مواطنة من الدرجة الثانية، وربما العاشرة في بلدك.

هذا هو حال ناسنا في العراق، وفوق كل ذلك عليهم ان يبتلعوا السنتهم ويسكتوا، لأنهم لو اعترضوا، سيخسرون حتى الهواء الذي يستنشقونه».

***

في الأردن رفع الملك الشاب، ومن اعلى منابر مملكته شعار (الأردن للاردنيين). فعل ذلك بقصد حماية مواطنيه، وحصر الرغيف والماء اللذين بالكاد يتوفران لهم، بدون ان يمتعض احد.

كنت في عمان لعدة مرات، ولي فيها اصدقاء حميمون من الوسط الثقافي والفني، وفي احدى مراحل مكوثي هناك اكرمتني رابطة فنانيها التشكيليين بعضويتها.

هذه الاغراءات، واغراء البقاء بجوار الاهل والوطن دفعاني الى محاولة الحصول على الاقامة فيها، وكان ذلك في عهد جلالة الملك الحسين.

كان الحصول على الاقامة يتطلب المرور على جهاز المخابرات، ولم يتوان مدير مشروع الصحيفة التي بدأت العمل فيها، وكانت بصدد الصدور عن تحديد موعد لي في ذلك الجهاز، فالرجل، وكان السيد «سليمان عرار» شخصية متنفذة، ومعروفة على اكثر من صعيد في بلاده، اذ كان وزيرا للداخلية لأكثر من مرة، ورئيسا لمجلس الأعيان.

وفي الموعد المحدد كنت اشرب القهوة في مكتب احد الضباط الكبار في الجهاز العتيد، فللحقيقة لا بد ان اشير الى الاستقبال الحار الذي يليق بمن جاء من قبل السيد عرار.

ولكن ما تبع ذلك من تحقيقات وازعاج، كان اكبر من طاقتي على التحمل، فزعقت في وجه المحقق الشاب بعد ثالث جلسة تحقيقية «لو كنت اعرف بأن الاقامة في الاردن تتطلب المرور بمكتبك لما طلبتها!».

ومن بابه الى باب السفارة التونسية، حيث كنت قدمت طلبا للحصول على تأشيرة الدخول الى تونس قبل ان اغادر بغداد سريعا.

ولم تمض سوى ايام حتى كنت احلق بين قطعات الغيوم الوردية الشاسعة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط.

لست هنا بصدد كتابة سيرتي الذاتية، ولكن صبركم عليّ، فللموضوع صلة. في اليوم التالي لوصولي الى العاصمة تونس اتصلت بصديق شاعر كنت عرفته خلال تردده على بغداد.

كانت مفاجأة «المنصف المزغني» كبيرة عندما قلت له بأني اتصل به من تونس. فسألني ان كنت سأطيل الاقامة، وعندما اجبته بالايجاب رحب بي، وقال «في هذه الحالة ينبغي ان نرتب امر اقامتك»، ثم اضاف: قرأت عن معرض رسمت فيه لوحات لقصائد البياتي، هناك من يهتم بهذا الأمر، ما رأيك لو نلتقيه في قاعته في «المنزه السادس»؟

وبعد ساعة التقينا في المكان الذي حدده لي، ثم رافقني الى (رواق الفنون). وصاحبه «العموري».

وفي التو اعجب الرجل بصور لوحاتي، وعرض عليَّ التعاقد على اقامة معرض شخصي، والمشاركة في معارض قاعته الجماعية.

وفي اليوم التالي كنا نملأ استمارة عقد العمل عند رواق الفنون، وطلب الاقامة في مبنى البلدية القريب.

ولم يكن علي ان اذهب الى مبنى للمخابرات في تونس، وذلك اعجب ما يمكن توقعه من دولة عربية، اذ حدث العكس، ففي احدى الاماسي، وبعد افتتاح معرض مشترك اقامه العموري في قاعته، وقدم فيه اعمالي الى جانب لوحات عدد من كبار فناني تونس والعراق، دخل زائر طويل عريض، ببذلة وربطة عنق، ونظارة سوداء.

وبعد ان اجال النظر بين اللوحات التفت اليَّ، حيث كنت اقف مع العموري، وعدد من زوار المعرض، وقال: من منكم «سي» مندلاوي؟!

سأل الرجل عن طبيعة رسومي، فعرفته على لوحاتي في المعرض، وعند ذاك عرف نفسه بأنه من «الأمن الوطني»، وبأن طلبي للاقامة وصل قسمه، فأحب ان يلتقي بي شخصيا، ولذا جاء الى القاعة.

وبعد ان اطلع على جواز سفري اعطاني رقم هاتفه، وقال بأدب جم، وهو يترك القاعة: «اذا تأخر تسلمك لاقامتك اكثر من اسبوع اتصل بي».

وخلال سنتين من اقامتي في تونس شاركت خلالها في مهرجاناتها التشكيلية، ومعارضها، واقمت معارض شخصية، ونشرت مقالات ورسوماً في صحفها، وصرت عضواً في جمعيتها التشكيلية، لم ألق غير الترحيب، والقبول من الجميع، ولكن كان لا بد من عقد عمل اوقعه مع (سيد) أو (سيدة) من تونس.

القصد من رواية هاتين الحادثتين من دولتين عربيتين احداهما في المشرق، والاخرى في المغرب، هو ان الاقامة لمواطني الدول الاخرى، هذا اذا منحت، (فدولة عربية مثل مصر لم تفتح حتى شبابيك احدى قنصلياتها امام العراقيين الهاربين من جحيم صدام)، فإنها لا تمنح جزافا، فلا بد من عقد عمل، وشخص أو شركة تتكفل الغريب، هذا ما نعرفه عن دول الخليج العربي، ودول اخرى كثيرة تحمي ارزاق مواطنيها وتمنحهم السيادة في اوطانهم، وحصة من كعكة الغريب. وهنا اعود الى هولندا، لأعطي مثلا من دولة اوروبية ايضا. ففي مدينة (امرسفورد)، حيث كنت اقيم رن جرس الهاتف ذات مساء.

جاء صوت (كاكة ـ اخ) «جمال خزندار» الصحفي والباحث الكردي الذي عملت معه في مجلتي «شمس كردستان»، و«ئه ستيرة ـ النجمة» خلال النصف الثاني من السبعينات، من القرن الماضي: «مساء الخير (كاكة) علي، شاب من اقاربي دخل هولندا على دراجة هوائية، هل أستطيع ان اوصيك به خيرا؟!

اتصلت بكاكة جمال بعد ايام، لأقول له مازحاً: «ارجو ان توصي قريبك الشاب بي خيرا!..».. يا رجل توصيني على شاب تخرج حديثا من الجامعة، ويسافر خارج العراق لأول مرة، فيجتاز يوغسلافيا، والنمسا، والمانيا وهولندا بدون تصريح، وبدراجة هوائية، وخارطة، ومصروف جيب بسيط.. هذا عفريت!

وبعد اشهر، وفي فعالية اقترحتها للأطفال العراقيين في مدينة «دلفت» الجامعية الشهيرة بوسط هولندا حضرها الكثيرون، ومن جملة من حضر العفريت الكردي الشاب.

جاء متأبطا ذراع حسناء هولندية، وقال وهو يقدمني لصديقته: «سمعت بفاعليتك هذه، فقررت ان احضرها بصحبة صديق»، مرحبا بكما، ولكن ماذا عنك؟ اين انت؟ وماذا فعلت بخصوص الاقامة؟! «لا شيء، شركة الكومبيوتر التي اعمل فيها وفرت لي السكن، وتعمل عبر محاميها على طلب الاقامة لي»، واضاف: «عليهم ان ينشروا اعلانا في الصحف بمواصفات الخبرة التي يطلبونها، والمتوفرة عندي، واذا لم يتقدم هولندي تتوفر فيه الشروط المحددة المطلوبة، سيستخدمونني، فالاولوية للمواطن الهولندي كما تعلم».

ـ «وهل تعتقد بأن هولندا تفتقر الى كفاءة مهما كانت في مجال الكومبيوتر؟».

ـ «في هولندا كفاءات ممتازة بالتأكيد، ولكن الطلب مفصل على قياسي! اجاب بثقة».

من هذه القصة نجد ان الدول تضع شروطا على شركاتها تلزمها باعطاء الأولوية لمواطنيها في فرص العمل المتاحة، كما نجد بأن في العراق خبرات لا يستهان بها لاعادة بناء البلد، واعماره، ويحق للعراقيين بعد كل المصائب والحروب والمقابر الجماعية، ومعاناة الغربة والتشرد في المنافي، وبعد ان عادت بلادهم اليهم، ان تسن القوانين على قياسهم، وليس على قياس الآخرين، فهم اولى ببلدهم، وبلدهم أولى بهم.