كلمة لاتينية مفتاح الحل للمشاكل الإيرانية

TT

في السياسة الإيرانية المتشظية، هناك كلمة واحدة يتفق حولها الجميع تقريبا، وهي حتى ليست كلمة إيرانية. إنها الكلمة اللاتينية «استفتاء» والتي ينطقها الإيرانيون «ريفيراندوم». ولم تستطع الكلمة الجديدة «هاما ـ بورسي»، وهي تعني حرفيا توجيه السؤال إلى الجميع، أن تحل محل الكلمة اللاتينية القديمة. وفي الوقت الحالي يتحدث الإيرانيون جميعا، على وجه التقريب، عن ضرورة إجراء الاستفتاء وإن اختلفوا حول الاسباب التي تستوجب إجراءه.

الحجة الأساسية هي أن الدستور، الذي جمع على وجه السرعة بعد حمى الثورة عام 1979، لم يعد ملائما للأوضاع. وقد اصطدمت كل الآليات الواردة في الدستور لتيسير عملية ممارسة السلطة، بحائط اصم تتكسر عليه عملية اتخاذ القرار في حكومة منقسمة على نفسها. والمخرج الوحيد هو إجراء استفتاء دستوري لإجازة التعديلات التي يمكن أن تكسر الحلقة المفرغة.

الدستور الحالي هو ترجمة تقريبية لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي جاء به الجنرال ديغول. وهو ينص على سلطة تنفيذية قوية، وسلطة تشريعية ضعيفة، بينما يضع السلطة القضائية في موقع رمادي غير محدد المعالم. ولكن المشكلة هي أن الذين أشرفوا على صياغة الدستور الإيراني أدخلوا عدة مواد تقضي على المنطق الداخلي للنسخة الفرنسية الأصلية. ومن أهم تلك المواد المقحمة تلك المتعلقة «بولاية الفقيه»، إذ تعمد تلك المواد إلى إعطاء واحد من الملالي، تسميه «المرشد الأعلى» سلطات غير محدودة تقريبا، مما افرغ الدستور من محتواه إفراغا كاملا.

ينتخب «المرشد الأعلى»، الذي يشغل منصبه مدى الحياة، بواسطة مجلس الخبراء، وهو هيئة من 90 عضوا كلهم من الملالي، تملك الحق في إزاحته من منصبه في ظروف استثنائية، يصعب تصور حدوثها. ويصبح «المرشد الأعلى» بمجرد انتخابه، القوة المركزية في النظام. فهو رأس الدولة الذي يجب أن يوافق على تنصيب قادة السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ومما يخلق بعض التشويش أن رئيس السلطة التنفيذية، ويسمى الرئيس، ينتخب بواسطة الشعب في انتخابات مباشرة، ولكنه لا يمارس صلاحيات منصبه إلا بعد صدور مرسوم من «المرشد الأعلى» يبارك انتخابه. وفي نفس الوقت، فإن «المرشد الأعلى» يستطيع دائما اختلاق آليات وعقبات دستورية تزيح الرئيس المنتخب. ومن صلاحيات المرشد الأعلى كذلك أنه يستطيع حل المجلس أو البرلمان. بل يستطيع حتى أن يعلق الأحكام الإسلامية الأساسية إذا رأى ذلك مناسبا في أي وقت من الأوقات. ولا يوجد زعيم واحد في التاريخ امتلك هذا القدر من السلطات كما حدث في حالة «المرشد الأعلى» الإيراني.

يحتوي الدستور على عناصر شاذة أخرى تؤكد ضرورة وجود مجلس يتكون من حراس الدستور وهو مكافئ للمجلس الدستوري الفرنسي. لكن المجلس الإيراني له الحق في فرض الفيتو ضد أية قوانين يصادق عليها البرلمان، بينما ليس هناك حق من هذا النوع بالنسبة للمجلس الفرنسي، لكنه يتدخل فقط في حالة ما اذا طُلب منه ذلك لتحديد ما إذا كان هناك تشريع ما يشكل خرقاً للدستور.

والمشاكل الدستورية بالنسبة لإيران لا تنتهي عند هذه النقطة بل هناك مجلس آخر اسمه «مجلس مصلحة النظام» وهذا قادر على التدخل لإلغاء أي قوانين تمت الموافقة عليها من قبل البرلمان. وخلال السنتين الأخيرتين طالب هذا المجلس أيضا بمنحه الحق في إصدار قوانين لوحده بدون العودة إلى البرلمان المنتخَب.

كان الراحل آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسه معارضا لتشريع أي دستور، فتحت نظام «ولاية الفقيه» الذي وفره ليست هناك حاجة إلى انتخابات أو برلمان أو رئيس، فالمرشد الأعلى يمتلك سلطة إلهية. فهو سيعين رئيس الوزراء ومجلس الوزراء للعمل كمستشارين له منفذين لأوامره.

لكن الخميني لم يكن قادرا على الحصول على كل ما أراده لأنه آنذاك كان بحاجة إلى تأييد كل الديمقراطيين والليبراليين واليساريين لتعزيز قبضته على السلطة. وكان ذلك كتنازل من جانبه لصالح هذه الأطراف حينما وافق على الدستور. لكنه لم يكن في أي لحظة على استعداد لخلق نظام مبني على الدستور. وطيلة بقائه حيا ظل يعمل كحاكم مطلق بدون الالتفات إلى إي قيود دستورية.

أما خليفته علي خامنئي فهو يفتقد المنزلة العالية التي كان سلفه يتمتع بها للاستمرار بهذا التقليد. وفي الوقت نفسه كانت الثورة عند وصوله إلى موقع المرشد الأعلى مجرد ذاكرة شاحبة بالنسبة لأغلبية الإيرانيين. فحينما تسلم الخميني السلطة سنة 1979 كان عدد سكان إيران 38 مليون نسمة، بينما اليوم يبلغ عدد السكان 70 مليون نسمة، وهذا يعني أن أكثر من ثلثي الإيرانيين لم يكونوا مولودين عند وقوع الثورة أو أنهم كانوا صغارا جدا في السن كي يصوتوا في الاستفتاء المتعلق بالدستور والذي نظمه الخميني قبل ربع قرن تقريبا.

وقالت شيرين عبادي الحائزة جائزة نوبل للسلام لهذه السنة إن «الاستفتاء سيسمح لشعبنا بتحديد أي نوع من الحكومة يريد». ففكرة القيام باستفتاء قد كسبت تأييداً أيضاً من رضا بهلوي ابن الشاه الراحل الذي يقود حاليا المعارضة الملكية، والجبهة الوطنية التي تضم عدداً من المنشقين المؤيدين لذكرى الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء الوطني في فترة الخمسينات.

كما يدعو عدد من كبار رجال الدين، بمن فيهم آية الله العظمى علي منتظري، الى اجراء استفتاء كوسيلة للخروج من المأزق السياسي الذي يمكن ان يقود الى العنف.

ويقول محسن كاديفار وهو ملى من انصار الديمقراطية ان «الاستفتاء افضل من الحرب الاهلية».

كما يتردد صدى عقد استفتاء داخل المؤسسة الحاكمة. فقد طالبت جبهة المشاركة، وهي تجمع سياسي يؤيد الرئيس محمد خاتمي، بإجراء تعديلات دستورية. كما تبذل جهود في الوقت الراهن لتشكيل كتلة جديدة من المرشحين للانتخابات العامة التي ستجرى في شهر مارس (اذار) الماضي في اطار الاستفتاء. وتلقت فكرة الاستفتاء ايضا دعما من بقايا نصف دستة من الاحزاب اليسارية.

وبالرغم من الموافقة الواسعة النطاق على ان الاستفتاء امر ضروري، فإنه عندما يتعلق الامر بمضمون الاستفتاء تختلف وجهات النظر.

الملكيون واليساريون يريدون استفتاء يلغي الجمهورية الاسلامية تماما، ويستعيض عنها إما بـ«ملكية دستورية» او «جمهورية الشعب» ليس للدين فيها مكانة.

غير ان البعض الآخر يريدون اعادة النظر في الدستور القائم. ويريدون الغاء منصب «المرشد الاعلى» بحيث يقترب النظام الايراني من النموذج الاصلي: الجمهورية الفرنسية الخامسة. وسيصبح الرئيس المنتخب انتخابا مباشرا رئيسا للدولة وسيحتفظ بسلطات كبيرة، بما فيها تسمية رئيس الوزراء. ولكنه لن يملك السلطة لايقاف العمل بالدستور، ولا التدخل في احكام الاسلام.

واقل المواقف في الاستفتاء هو موقف هؤلاء الذين يريدون الغاء «مجلس صيانة الدستور» و«مجلس تشخيص مصلحة النظام». ومثل هذا التعديل سيحافظ على سلطات «المرشد الاعلى» في الوقت الذي يعزز فيه سلطات الرئيس المنتخب والبرلمان.

ومن المحتمل ان يظهر موضوع الاستفتاء باعتباره النظرية الاساسية في الانتخابات العامة القادمة. غير ان احتمالات اجراء استفتاء في الوقت الراهن تبدو ضئيلة. وعلى العكس من ذلك فبعض المنظرين المتشددين حول خامئني يدعون علنا لوقف الدستور والى فترة من الحكم المباشر لـ«المرشد الاعلى». وربما يستغرق الامر بعض الوقت قبل ان تختار ايران ما بين الاستفتاء السلمي والتغيير العنفي للنظام.