جراحة دقيقة في جسد الهوية السودانية

TT

ان اختزال المشكلة السودانية باعتبارها مشكلة من مشاكل الاقليات فحسب، فيه الغاء لعناصر مهمة في الاشكالية السودانية. اذ ان هذه الحرب وهذا الاقتتال الذي يدور بين السودانيين منذ عقود، ما هما الا وجه من وجوه هذه الاشكالية. فالتحليل الموضوعي للتركيبة السكانية لجميع الفئات التي انخرطت في هذا النزاع، سواء حكومية او جماعات عرقية او جهوية، وسواء كانت تستهدفها الحرب مباشرة او كانت تستضيف جموع النازحين الهاربين من اتون الحرب، تجعل من هذا الصراع تناحرا حول الهوية، في بلد شاسع متنوع غني بالاثنيات. لا يستقيم النظر الى هذا الصراع وكأنه مواجهة عنصرية بين قبيلتين، كما في حالة التوتسي والهوتو في منطقة البحيرات.

لا يرى التوتسي انفسهم الا شعبا من شعوب الله المختارة في افريقيا، اخذتهم العزة بالعرق، ان جاز القول. يعتبرون انفسهم ملوكا وغيرهم اتباعا لهم وعبيدا. وتتحصن مثل هذه القبائل بنظم اجتماعية مختلفة، يقر الانثروبولوجيون انها ترسخ استقلالهم بما يصل الى درجات عالية في المحافظة على نقاء العرق، فلا يسمح بحراك اجتماعي اثني بين القبيلتين، لا تزاوج لا اندماج ولا تداخل عرقيا من اي نوع. هي لاءات اثنية ثلاث قائمة بين التوتسي والهوتو، كما ترون. وذلك كله مما يثبت الحدود العرقية، فتقف بين هاتين المجموعتين جدران لا يقل سمكها النفسي عن سمك جدار برلين الشهير، الذي تهاوى اثر اندثار الحرب الباردة وافول مظاهرها السالبة.

ليس في تاريخ السودان شبه لهذا. ليس في تاريخ السودان القديم قهر تمارسه فئة او جماعة اثنية ضد جماعة اثنية اخرى. اترك الاثبات، ليس فقط لعلماء الآثار، اولئك الذين فكوا طلاسم اللغة المروية ومغلقاتها، وانما لعلماء التاريخ واللغات والاجتماع كذلك.

ان ما يثير الذهول حقيقة هو سمو قيم التعايش الحقيقي بين الجماعات البشرية كافة، التي كانت تنعم باستقرار في وادي النيل، ذلك منذ كوش اول التاريخ وحتى السلطنة الزرقاء ـ دولة الفونج ـ التي بادت في بدايات القرن التاسع عشر. وحتى لو نظر الرائي غير المتخصص لتماثيل الفراعنة، لأدرك ان سحنة بشر ذلك الزمان هي غير سحنتهم اليوم، وان ذلك مرده من دون شك، الى تفاعل واندماج بين مجموعات ذلك الزمان. قد لا ينبئك التمثال المنحوت من حجر قاس عن لون البشرة، لكن لا تخفي التقاطيع اثرا افريقيا لا تخطئه عين حصيفة.

ولعل الثابت ان هوية شعب ما، لا تكتسب تميزها او يلمع نفيسها، الا بالاندماج والتصاهر والتفاعل، وان للمجتمعات البشرية عبقريتها في ابتداع لغتها ونظمها واساليب حفاظها على الشخصية وعناصر تكوينها.

ولعل الناظر في تاريخ السودان قبل المهدية، يرى ان السلطنة الزرقاء او مملكة الفونج، كانت دويلة اسلامية نشأت منذ القرن السادس عشر الميلادي في خاصرة النيل، قلب السودان بحدوده الجغرافية الحالية. ولعل في اطلاق صفة الزرقة، مدلولات لا تخفى على الذين ـ عبر التاريخ ـ يرون في دكن اللون مبررا للقهر والاضطهاد والاستعباد. كانت السلطنة الزرقاء مملكة اسلامية شامخة في قلب افريقيا، شهد بعظمتها مؤرخون ورحالة. وصفوا احوال هذه المملكة وتركيبتها الاجتماعية ونظامها السياسي والديني وعادات اهلها وتقاليدها.. لم نرصد فيما رووا لنا شروخا اجتماعية عميقة او صراعات اثنية جارفة او تصادما وابادة جماعية حصدت جماعات السكان في ذلك الزمان. كانت العقيدة الاسلامية دين الناس، لكنه بين السلطتين الدينية والدنيوية، حلف واتفاق، ولم يكن معتنقوها ممن اخذتهم العزة بعقيدتهم، ولا بينهم من جنح لاقصاء الآخر، مسيحيا كان أم يهوديا أم بلا دين كتابي.

ان نشوء فكرة الانتماء لوطن قومي واحد قد تأخذ حيزا زمنيا طويلا حتى تتبلور، غير ان بروز السلطنة الزرقاء ـ وبهذا الاسم المميز اللافت ـ يعكس الاقتراب من فكرة الانتماء الى الوطن، والابتعاد عن الانتماء الى القبيلة او الجماعة الاثنية المعينة. وهذا التطور بدوره لم ينتج الا عن تفاعل اجتماعي وانفتاح بين الاثنيات، شكل فيما نشير اليه الآن من قيمة اجتماعية عالية، هي التسامح وهي اوضح ما نراه ونلمسه في سلوك «السوداني» مع «السوداني». وما كان ليقع هذا التطور في السلوك البشري ان لم يتشرب من مثل هذه القيم فتترك اثرها البين فيه، وذلك بجانب ما للمعتقدات والاديان من تجل فيه.

ان في بعض الذي سردت في الاسطر الفائتة ما يعكس تعقيد الاشكالية السودانية، وهي اشكالية تتصل برؤية «السوداني» لهويته، ورؤية الآخرين «للسوداني»، ثم اتصال كل ذلك بمشكلة جنوب السودان وتعقيداتها المتصلة بالظلامات التاريخية، كسياسة الاسترقاق والصراعات القبلية والاثنية والعقائدية.. ولعل في ذلك ما يجعل من الازمة السودانية نسيجا لوحده. ليست هي كالمشكلة الكردية في العراق، ولا هي مثل مشكلة الامازيغية في الجزائر، وقطعا ـ وكما ابنَّا بداية هذه السطور ـ ليست كصراع التوتسي والهوتو في منطقة البحيرات. ان في السودان ـ فيما ارى ـ هويات متقاطعة، تجذر بعضها في التاريخ الضارب في قدم الصخر المنحوت في الجبال واهرامات مروي في شمال السودان، ربما الاقدم من اهرامات الجيزة، كما تجذر بعضها في عقائد كتابية واخرى غير كتابية، في بعضها سمات افريقية وبعضها سمات عربية.. وكلها موزعة على اقاليم السودان الشاسع، غربه وشرقه، جنوبه وشماله.

ان تبلور الهوية ينظر اليه كعملية آخذة في التفاعل المستمر، وتتشكل عناصرها وتتجدد في ديناميكية، تتولد معها وفيها شظايا سالبة، لكن ايضا مكونات ايجابية. وما الصراع الدائر الآن، ومنذ عقود توالت، منذ نيل السودان استقلاله، الا حلقة من حلقات تشكل الهوية واعتدالها قواما سويا.

نحن في السودان الآن، يملؤنا قدر من التفاؤل بأنه بات بالامكان تجاوز حلقات الصراع والاقتتال، لو تسلحنا بالقدرة المطلوبة لاستقصاء مسببات التنازع والاقتتال. ان استلهامها لتاريخنا البعيد، فيه عبر ودروس يجدر ان نستهدي بها، ليس مطلوبا منا ان نكون فلاسفة منقطعين للفكر، كما ليس مطلوبا منا ايضا ان نكون قتلة وجلادين.. ان الاجيال في السودان الحالي، تحمل تاريخها وارثها ومكوناتها فوق اكتافها. لا يعفينا التاريخ من ارث ثقيل خلفه اباؤنا الاوائل، ليس آباء استقلال السودان في خمسينات القرن الماضي فحسب، بل الآباء الذين وضعوا لبنات الهوية منذ بداية الحضارات الفرعونية، شمال السودان وحتى نشوء الممالك والدويلات في السودان الجغرافي العريض. حقب تاريخية فيها السلطنة الزرقاء، ثم الحكم التركي الاستعماري في السودان في القرن التاسع عشر، حتى بروز حكم المهدية وبدايات تشكل السودان بحدوده المعروفة حاليا بعد غزوه عام 1898 على يد الجنرال البريطاني اللورد كيتشنر.

ان التحدي الماثل الآن لهذا الجيل في السودان هو العمل على ترسيخ اسهامه الايجابي لبناء هوية السودان في حقبة من حقب التاريخ المفصلية، في الاقليم الذي يقع فيه السودان بوجه خاص، وفي محيط القارة الافريقية، بل في العالم. وانه يتوجب ان تتسامى احاسيسنا فوق ظلامات التاريخ، لا للتداعي لوأدها خجلا او لإخفائها وجلا، بل للإقرار بوقوعها، ثم السعي بقناعات صادقة للوفاء بمقتضيات بناء هويتنا المميزة. ان الهوية السودانية فيها من العناصر الخلاقة ما قد يدفع بالسودان وبنيه لتبوؤ موقعهم المركزي في دوائر انتماء هذا البلد، في القارة الافريقية وفي العالم العربي وفي العالم الاسلامي. ليس ذلك حلما بعيد المنال ولا تطلعا اجوف لا تسنده مقومات. لا نسعى لدفع السودان دفعا لدور لا يستحق ان يتولاه، كما لا نرغب في سرد تفصيل عن تاريخ قريب كان للسودان فيه القدح المعلى في حماية الثغور العربية. ويستذكر الخيِّرون الاشقاء للسودان، دورا مميزا في اطار قوات الردع العربية، حين نشب النزاع بين الإخوة في الاردن او في لبنان، اذ كانت القوات السودانية تحمي الارض بين شطري بيروت من غلواء بنيها في بدايات حربهم الاهلية منتصف السبعينات. كانت كل الطوائف التي تقتتل تكن للقوات السودانية احتراما ساميا، ما كان السودان وقتها دولة طرفية لا دور لها، ولا كان بلا لون فلا يرى، او بلا طعم فلا يستساغ. ما بالنا اليوم صرنا في طرف الاطراف.. وان فقدنا علما عربيا سودانيا في قامة العالم عبد الله الطيب، نستكثر عليه عمادة الادب العربي ـ والفقيد الراحل يستحقها، لا منة من أحد ـ فيوصف بأنه عميد الادب العربي في السودان، فتأمل!؟

ليست هوية السودان هوية طرفية، بل هي ثلاثية التكوين، تتفاعل فيها اقوى ما في الدوائر الافريقية والعربية والاسلامية من عناصر، تتقوى بالتعايش المشترك بين اقوام السودان، وتتسامى بالتسامح بين ابنائه.. هي في الطريق الى التوحد وعبر مخاض طويل ومضن، لا شبه له إلا في المخاض الذي عانى فيه الشعب الامريكي عبر حربه الاهلية القاسية صنوفا من الدمار، ولكن خرجت بعدها الولايات المتحدة التي تعرف.

* سفير وكاتب سوداني ـ لندن