التصفيق وقوفا

TT

بعد اعتزال الرئيس سليم الحص السياسة للانصراف الى «العمل الوطني»، اعلن الدكتور عبد الرحمن اليوسفي في المغرب الخروج من السياسة بلا عودة. كلاهما خرج غاضباً: الحص، لأن الرئيس رفيق الحريري جعله في شبه عزلة وجرده من مقعده النيابي في معركة طاحنة. واليوسفي بسبب الخلافات التي تجتاح حزبه، «الاتحاد الاشتراكي».

وكنت اتمنى ان يخرج الدكتور اليوسفي من العمل الحزبي والسياسي في هدوء. وبلا مرارة. وبمبادرة منه لا بردة فعل على سواه. فالرجل في التاسعة والسبعين من العمر. وخلفه من صفحات السيرة السياسية ما لم يتسن للكثيرين. وقد جاء الى العمل السياسي من ارض الاستحقاق، من العمل النضالي. وكان ذات يوم رفيقاً للرجل الذي ذر رماده في ذاكرة المغرب، المهدي بن بركة. تشرد معه وبعده في المنفى الباريسي وتذوق سجون البلاد، واصبح في النهاية اول معارض ومنفي يرأس الحكومة ويقف الى جانب الحسن الثاني.

لقد كان عبد الرحمن اليوسفي من الذين غيروا في ملامح المغرب وفي جوهر تركيبته السياسية. وكان من رعيل اولئك المغاربة الكبار، المثاليين والنموذجيين والمناضلين في سبيل الناس والمملكة. ومثله مثل كثيرين سواه، جعلوا العمل السياسي في المغرب العربي قدوة ومقتدى. وحموا المغرب من محنة الجزائر ومن انقطاع التجربة الديموقراطية في تونس ومن انعدام العمل السياسي في دول اخرى. وتميز اليوسفي والفقيه البصري وعبد الهادي بوطالب وعدد كبير من المعارضين والموالين والوسطيين، تميزوا تميزاً فائقاً بالافتتان الثقافي والانخراط الثقافي والمستويات الفكرية واناقة الخطاب السياسي وشفافية الالتصاق بالناس وقضاياهم ويومياتهم.

وكانت الوحدة الوطنية في المغرب عمل الجميع لا ديكتاتورية الجبهة او الحزب. وخاض فقراء المغرب معركة الاستقلال الى جانب محمد الخامس قبل اغنيائه. وكان الكل قريباً من القصر او من «المخزن» ومشاركاً له، الا في المرحلة الاوفقيرية التي غيرت في السلوك الوطني العام ونشرت الحذر والخوف وادخلت على المغرب التجارب الانقلابية الرديئة التي عكست اتجاه المسيرة في البلاد.

كان وصول عبد الرحمن اليوسفي الى الحكم الخطوة الاولى في العودة الى الوئام الوطني الذي رفعه عبد العزيز بوتفليقة شعاراً في الجزائر ولم يستطع تحقيقه. ولم يفرض عبد الرحمن اليوسفي بعد انتصاره الشروط التي قد تفسد التجربة، فأبقى ادريس البصري في وزارة الداخلية، في الحكومة الاولى. وكان المشهد مثيراً وغير مقنع تماماً. لكن اليوسفي اراد ان يقول انه يطلب المشاركة لا السلطة. ومع مجيء محمد السادس تغيرت الاشياء من تلقاء ذاتها في الرباط. وسقطت جدران كثيرة ورموز كثيرة.

حدث لعبد الرحمن اليوسفي في الحكم ما حدث لجميع الذين جاءوا من المعارضة: تجمهر حولهم الرفاق وكثرت عليهم المطالب وتكاثر عليهم الذين يذكّرونهم بخطاب الامس وماذا حدث له. لكن اليوسفي مضى في طريقه. وكانت تجربته في الحكم واحدة من الاكثر ثماراً في المغرب ومن الافضل في العالم العربي.

وفي مراحله الاولى كنت اقول لاصدقائي ان رفيق الحريري اهم رئيس وزراء في العالم العربي لولا رجل واحد. وعندما اسأل من هو، اقول انه عبد الرحمن اليوسفي. والمؤسف ان التجاذبات الاخيرة في لبنان افقدت الحريري ايضاً ذلك الموقع الخاص في العالم العربي. فقد كان يملك من العلاقات العربية والدولية ما لا يملكه سواه. وكان الاكثر تحركاً بين رؤساء الوزراء، يلعب ادواراً عربية واقليمية، تفوق بكثير حجم لبنان. لكن الحالة السياسية المتردية في لبنان خطفت الكثير من هذا البريق، واعادت بيروت ساحة كئيبة وحلبة يتصارع عليها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء كل يوم. والناس تشعر بمرارة عميقة ومضنية، وهي ترى الدستور معلقاً على الباب مثل معطف منسي.

في اعتزال عبد الرحمن اليوسفي عنوان لفصل في حكاية الاجيال السياسية في العالم العربي. لقد كان يفترض ان يعتزل في اي حال. وكان ذلك متوقعاً. لكن المرء لا يستطيع ان يترك مثل هذا الذهاب الكبير عن المسرح، من دون التصفيق. وقوفا.