الإعلام الغربي والانتفاضة.. التلاعب بكلمتي «القتل» والقتل المتعمد»

TT

يلاحظ المراقب للإعلام الانجليزي (البريطاني والاميركي) عن كثب انتقاء مرادفات اللغة الانجليزية بعناية بالغة عند نقل اخبار الاحداث الدامية لانتفاضة القدس. فالاعراف الغربية التي تعتبر قتل الاطفال جريمة كبرى لا تتردد في استخدام كلمة Kill، أو ما يعني القتل عند استشهاد الاطفال والاشبال الفلسطينيين، بينما تستعمل احيانا كلمة Murder، أو ما يعني القتل المتعمد او جريمة قتل عند موت الجنود الاسرائيليين نتيجة الاحداث الدامية. ويذكر هذا الإعلام في معظم اوقاته عدد القتلى فقط وكأنما يوحي للسامع او المشاهد الغربي بأن عدد الضحايا من الجانبين متقارب، وفي مرات قليلة يذكر الإعلام البريطاني ان الغالبية العظمى للقتلة هم من الفلسطينيين. اما الإعلام الاميركي فهو منحاز بالكامل لصالح اسرائيل وكثيراً ما يركز على العنف الفلسطيني!! عنف لاطفال وشباب متسلحين بالحجارة ضد واحد من أعتى الجيوش في العالم، مدجج بأحدث الاسلحة وأعقدها تقنية ومستخدم لجميعها ضد الفلسطينيين المدنيين العزل!! حق الشاعر عند قوله:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر وقوة الاعلام الغربي وان كانت نابعة من التفوق التكنولوجي والقوة الاقتصادية والسلطة المالية، فهي بشكل او آخر متوافقة مع وهن الانظمة او الحكومات العربية وضعف مواقفها الرسمية وارتباك سياساتها. فقد اثبتت الاحداث الاخيرة ان الشعوب العربية كانت سابقة للانظمة الحاكمة في حساسيتها المرهفة لأحداث مصيرية تمس ضمير الامة. وقد يكون هذا بسبب دور الفضائيات العربية في نقل الاحداث الدامية للمشاهد اولا بأول واحيانا دقيقة بدقيقة. وقد يعكس ايضا تعقيد الوعي العربي نتيجة زيادة القنوات الاعلامية والمعلوماتية في المنطقة. تغير كبير في حال الشعوب العربية، بلا ادنى شك، مقارنة بأحداث الانتفاضة الأولى في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم.

والسؤال التالي يطرح نفسه بقوة، ما الذي تغير في مواقف الحكومات الرسمية للاحداث الحالية عن تلك، وعلى سبيل المثال عندما تم قرار مقاطعة مؤتمر الدوحة الاقتصادي قبل بضع سنين؟

والجواب، لا شيء اطلاقا إلا اللهم الادانة النصية، واحيانا الصوتية لمواقف حكومة تل ابيب المتعنتة، وبعض الاحيان انتقاد سياسة واشنطن المؤيدة لاسرائيل. وبالرغم من تغير الزمان فضلا عن المكان وما طرأ من ظروف جديدة، لم يكن هناك مستجد في المواقف الرسمية لحكومات العرب او وضع آليات فاعلة لشجب الادانة بشكل عملي. حصيلة هذه المواقف كلمات جوفاء وبيانات فارغة من اي معنى او محتوى او مضمون موجهة بالاساس للاستهلاك المحلي، وتعاملها مع الاحداث الاخيرة على اساس الصيغة التقليدية لعملية السلام. وهذا ما يعكس كم هي حدة تخلف الحكومات او النخب الحاكمة في العالم العربي عن شعوبها! ويتساءل الشخص الذي يلم ببعض امور السياسة. أليس من المفروض، كمثال عملي، لاعطاء الاشارة السياسية الصحيحة لاصحاب القرار العالمي والاسرة الدولية في توقيت انعقاد مؤتمر القمة العربية بسرعة وقبل لقاء شرم الشيخ في مصر.. او وقف التطبيع كاملا، او قطع اشكال التعاون بين العرب واسرائيل وغير ذلك من السياسات العملية والواقعية للمتمرسين في الميدان السياسي حتى يكونوا قادرين على تلفظ رغبات شعوبهم والتعبير عن جراحها ناهيك من التنديد العملي للعمل اللاإنساني الذي يقوم به جيش اسرائيل تجاه الاطفال الفلسطينيين.

جميع الحكومات او النخب الحاكمة في الوطن العربي متطابقة في مواقفها العملية تجاه اسرائيل او القضية الفلسطينية مهما اختلفت الوانها او تركيباتها او ابواقها الإعلامية.

فنرى في هذه النخب من هو ساكت والآخر من هو متمنطق بعملية السلام والآخر المؤيد بأعلى صوته للنضال ضد اسرائيل.

الحصيلة النهائية كلمات لفظية او نصية فقط تلتقي في نهاية المطاف بهدف واحد هو اللاشيء او اللاعمل.

النظام العراقي الحاكم، مثالا لا حصراً، لم يقدم خدمة عملية للمسألة الفلسطينية او يدفع قضيتها شبرا واحدا للامام بالرغم من اعلامه وضجيجه وصواريخه.

تشير الوثائق السرية الى ان احد القادة السابقين للنظام الحاكم، شفيق الدراجي ـ عضو القيادة القطرية لحزب البعث العراقي، كانت له اخت تعيش في اسرائيل ويلتقي بها في بيروت في منتصف الستينات من القرن الماضي.

وانسحب الجيش العراقي في حكم حزب البعث العراقي عام 1970، كما نقلت الصحافة العالمية، حتى يفسح المجال لجيش الاردن في ضرب الفدائيين الفلسطينيين في مدينة جرش في ايلول (سبتمبر) عام 1970.

وأنشأ النظام جبهة التحرير العربية واعتبرها المنظمة الوحيدة والممثلة لنضال الفلسطينيين، واعتبرت هذه الخطوة في حينها لكثير من المراقبين، محاولة لشق الصف الفلسطيني.

والاكثر من ذلك قامت مخابرات النظام العراقي باغتيال رموز منظمة التحرير الفلسطينية امثال سعيد حمامي في لندن وعز الدين قلق في باريس نهاية السبعينات.

ونقلت حكومة صدام حسين في بغداد صراع الامة العربية من اسرائيل الى «الفرس المجوس» عند شنها الحرب على ايران وتشدق النظام بمقولة «تحرير القدس يمر عبر طهران». وكم كانت هذه الحرب خسارة للطاقات والجهود الاسلامية والعربية وآلت الى إضعاف الصف العربي مهيئة الظروف الموضوعية لغزو اسرائيل للبنان عام 1982.

ودعوة النظام العراقي ثانيا الى تحرير القدس لكن هذه المرة سيتم عن طريق الكويت عند غزو جيشه دولة الكويت عام 1990. وما تبع ذلك من إضعاف حقيقي للموقف العربي ثم توقيع معاهدات السلام من موقع ضعف بالغ.

والمتابع للاحداث الاخيرة منذ بدايتها يلاحظ تأخر رد فعل بغداد خصوصا موقف رئيس نظامها، ولم يأت الموقف المتشدد الا بعد بضعة ايام عند اتضاح حدة الصراع وتفاعل الشعوب العربية معها. وجاء رئيس النظام العراقي بمقولته (الساخرة او الجدية) لو كانت له قطعة ارض في جوار اسرائيل!! مواقف سياسية هدفها الظاهري الاستهلاك المحلي او ركوب موجة الشعوب ومخاطبتها، بينما باطنها هو المراوحة وعدم عمل شيء فضلا عن ارسال الاشارات السياسية الخارجية.