الإهانة الذكورية من جراء «مطلق الأنثى»!

TT

حمل نابليون على الشرق (1798) بالمدفع والمطبعة. بالمدفع دك خنادق المقاومة في الازهر وبالمطبعة طبع بيانات ادارته الاستعمارية ومراسيمه. وبعد انتهاء الحملة الفرنسية عام 1801 امر نابليون بنقل المطبعة الى فرنسا وضمت الى المطبعة الاهلية بباريس. فالمطبعة كما المدفع كانت سلاحا استعماريا، الحاصل ان الحملة الكولونيالية الخاطفة (1798 ـ 1801)، وان سرعان ما انتهت عسكريا، بقت صدمتها الحضارية تفعل فعلها: خلخلة في بنية اقتصاد الاجتماع المصري ـ المملوكي المنحط. وتوليدا لتحولات اجتماعية موضوعية ظهرت تعبيراتها في ما طرأ على وضع المرأة من تبدلات، مثل خروجهن الى الحياة العامة سافرات وتداخلهن مع نساء الفرنسيس ومخالطتهن للرجال. وكان لوقع تلك المظاهر عند العموم وقع الكارثة واستبصار لعلامة من علامات القيامة! فها هو الجبرتي يصف الحال (1800م) وهو في حالة من الخواف التهويلي المضخم لمظاهر سفور محدودة ومعزولة في نطاق النساء الميسورات من ذوات الطبقة الغنية الطرفية (المستعمرة ـ بفتح الميم) التابعة والخادمة للطبقة البرجوازية المستعمرة (بكسر الميم). الجبرتي هنا، يسحب الظاهرة المحدودة هذه على معظم نساء مصر، وصورة ذلك هو قول الجبرتي ان «تبرج النساء وخروج غالبيتهن عن الحشمة والحياء (حدث) لما حضر الفرنسيس الى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم حاسرات الوجوه لابسات الفستنات والمناديل الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة، فمالت اليهم نفوس اهل الاهواء من النساء الاسافل والفواحش».

وعند القراءة التفكيكية للغة الجبرتي في وصف تحرر المرأة يتكشف خطاب فحولة مهانة يتوسل «الحشمة والحياء» آلية دفاعية واللغة التهويلية اداة ادانة اخلاقية تعوض عند نفسه الذكورية المقهورة احساسه بالذل والنقص ازاء مشهد نساء قاهريه (الفرنسيس) وهن يمارسن حريتهن بلا حسيب، بل انهن ـ حسبه ـ يركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا، وفي وصفه لسوقهن العنيف للخيول والحمير احساس بالاضطهاد متوار وراء الخيول والحمير. فالجملة في اللاوعي الذكوري المقهور تريد القول انهن يركبن الرجال ويسوقونهم سوقا عنيفا وامضاء في ساديتهن يسدرن في الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية وحرافيش العامة.

انه وصف بلغة ثقافة اجتماع ذكوري مصابة بانجراح نرجسي ناجم عن الاهانة الحضارية التي لحقت به من جراء الحملة الفرنسية الكولونيالية التي قهرت فحوله واذلتهم وجعلت اناثهم (وهم المغلوبون) يتشبهن بنساء غالبهم ويتداخلن معهن. وكان التداخل (التقليد) من طرف النساء الميسورات في اول الحال يجري «مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في اخفائه» ثم «تداخل مع اولئك الميسورات غيرهن من النساء الفواجر، ولما حل بأهل البلد من الذل والهوان وسلب الاموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم» وهنا يشن الجبرتي هجوما اخلاقيا تبخيسيا ينال من فحولة مستعمريه الفرنسيس، اذ يظهرهم خاضعين للنساء تابعين لمرادهن وعدم مخالفة هواهن حتى لو شتمنهم او ضربنهم بالصرماية! والجبرتي نفسه وهو الشيخ الازهري عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ الحملة الفرنسية في كتابه الشهير «عجائب الآثار في التراجم والاخبار» لم ير مانعا من تقلد منصب وزير في الوزارة الاستعمارية، فقد كان عالما ازهريا منفصم الموقف والرؤية ازاء الفرنسيس، فمن وجه اول كان مبهورا بأساليبهم وادواتهم الحضارية العصرية في مجال نظمهم السياسية والادارية وعلومهم العقلية وآلياتهم الصناعية ومنتجاتها. ومن وجه ثانٍ كان كغيره من بني جلدة ثقافته الذكورية الاقطاعية المهانة ممن بوسعهم ان يتفهموا سيادة الفرنسيس على البلاد والعباد (والازهر) بشرط ان يتركوا لهم حرية تصرفهم في اناثهم (آخر خنادق تركة تقاليدهم واصالتهم المزعومة)، لذلك عندما استحسن الرجال الفرنسيس النساء الشرقيات «خطب الكثير منهم بنات الاعيان وتزوجوهن» رغبة فيهن من طرف الفرنسيس ورغبة في التقرب من سلطان اهلهن من الاعيان. وكان الفرنسي الراغب في الزواج من مسلمة لا يجد غضاضة في النطق بالشهادتين «لانه ليس له عقيدة يخشى فسادها» كان ادعاء الفرنسيس اشهار اسلامهم امرا رائجا اثناء الحملة، حلا لمشاكلهم الجنسية في مجتمع محافظ، وكذا اتخذ كتكتيك لاستمالة رضى المستعمرين (بفتح الميم) وكان نابليون هو اول من توسله ومن المحتمل انه نصح ضباطه بتقليده ويظهر ذلك جليا في حكاية زواج الجنرال مينو الذي كان حاكم مدينة رشيد (سيغدو حاكما على كل مصر بعد اغتيال حاكمها الجنرال كليبر بخنجر طالب الازهر سليمان الحلبي) وقد تظاهر باشهار اسلامه وسمى نفسه عبد الله مينو وتزوج من بنت شيخ منطقة رشيد، الشيخ علي الرشيدي مالك معظم حمامات المدينة. كان الجنرال عبد الله ـ تقول الحكاية ـ يعامل امرأته المسلمة معاملة النساء الفرنسيات، اذ كان يمد اليها يده كلما هم بالدخول معها الى غرفة الطعام ويتحرى لها أوفق المجالس، ويقدم لها خير الاطعمة واشهاها، وكان اذا سقط منديل الطعام الموضوع على فخذيها بادر بأخذه واعادته الى مكانه. فلما روت تلك المرأة هذه الامور على صاحباتها في احد حمامات رشيد لاحت لهاتيك النسوة بارقة الامل في تغير احوالهن وعاداتهن. فحررن عرضا (عريضة) قدمنه الى السلطان الكبير بونابرته ليحمل اوزاجهن على معاملتهن بمثل ما يعامل (الجنرال عبد الله) مينو زوجته الرشيدية به «فخرجت اول مظاهرة عربية نسوية مطلبية ترجو الجنرال ان يتدخل حتى يسمح لهن رجالهن بالتردد على الحمامات العامة في المدينة وان تخصص بعض هذه الحمامات للنساء» كانت تلك المظاهرة، في لب سؤالها الاجتماعي رغم سطحية مطالبها، تمثل علامة من علامات الخلخلة البنيوية العميقة في واقع حال اجتماع الاقطاع الشرقي نتيجة للزلزلة الحضارية التي احدثتها الحملة الفرنسية الاستعمارية الخاطفة في الحياة المصرية (القاهرة على وجه الخصوص) . كان زلزالا على مقياس الحداثة الغربية في ذروتها الكولونيالية المركزية، ضرب اساسات ظواهر الحياة ومعطياتها، وظهرت مظاهر تحولاته الانقلابية في الادارة المدنية وطبيعة الحكم السياسي والنظام القضائي والزي واداب السلوك.

عندئذ بذرت ثنائية الاصالة والمعاصرة، اذ رأى المصلحون الاسلاميون الاوائل ان لا ضر ولا ضرار في الاخذ بالعلوم الزمنية، من طب وهندسة وكيمياء وطبيعة (فيزياء) الخ.. مع التشبث بالعلوم النقلية ومعهود عادات ومآلف الاقطاعية الذكورية، حيث المرأة معادل موضوعي لملكية الذكر «المقدسة» وايقونة شرفه الرفيع! وآخر معاقله الدفاعية وكذا موضوع انتقامه! ومعروفة القصص الكثيرة التي ذكرها الجبرتي عن جرائم قتل عديد النساء «المتبرجات» بعد خروج الفرنسيس من مصر مباشرة، مثل حكاية ابنة الشيخ البكري الذي كان نقيب الاشراف في عهد الحملة الفرنسية، وكانت ابنته زينب ممن تبرجن مع الفرنسيس، واتهمت انها كانت عشيقة لنابليون. فاستدعيت من طرف الحاكم العثماني الجديد بعد خروج الفرنسيس.. كتب الجبرتي: « [email protected]