سؤال القرن: هل هو أميركي أيضا؟

TT

شهدت بداية القرن الماضي زوال الامبراطورية العثمانية بعد حوالي خمسة قرون من التوسع. وقد ذابت امبراطورية الاستانة كما ذابت امبراطورية روما والقسطنطينية اللتان ورثتهما، اي في الحروب ومؤامرات الاخرين وتحالفاتهم واطماعهم. وفي زوال الاستانة وانحسارها نشأت الامم والدول من جديد، تماما كما حدث بعد زوال روما وقيام فرنسا وبريطانيا والمانيا. غير ان ورثة تركيا الامبراطورية كانوا في اكثريتهم ذوي طبيعة واحلام امبراطورية هم ايضا. الروس الذين سيصبحون السوفيات فيما الحرب العالمية الاولى في ذروتها. والاميركيون الذين سيطلون للمرة الاولى من خلف الحلف الاطلسي. والبريطانيون الذين سوف يوسعون سيطرتهم في كل اتجاه ويرثون الشرق العربي ويرفعون علم الجنرال اللنبي في القدس. والفرنسيون الذين اعطوا حصة من كعكعة الارض.

تختلف بداية القرن الحالي عن بداية القرن الماضي والقرون الماضية، ليس فقط بوجود امبراطورية عالمية واحدة بل بغياب مشاريع الامبراطوريات الاخرى. فأوروبا الموحدة التي نشأت من دولها ذات مراحل، الامبراطورية الاسبانية والبرتغالية والالمانية والهولندية، بالاضافة الى الفرنسية والبريطانية، هي الآن دولة كبرى موحدة ومدجنة في ظل الهيمنة الاميركية. وروسيا السوفياتية او الاتحادية في حالة انهيار. واليابان الامبراطورية مجردة من السلاح. والصين في بدايات النمو. ولذلك فان السؤال الكبير مطلع هذا القرن هو هل سيكون القرن الجديد اميركيا ايضا؟ وهل ستتبع الولايات المتحدة السياسات التي اتبعتها طوال القرن الماضي في سعيها الامبراطوري المعلن وغير المعلن، المكشوف والمضمون، وهل يمكن ذلك، وهل هو ـ. قبل اي شيء آخر ـ في مصلحتها، ام ان التوسع سوف يودي بها كما اودى بغيرها من قبل الى التفتت ثم الانحسار والعودة الى حدودها القومية بعيدا عن المدى العالمي الذي ترتع فيه الامبراطوريات وتتوسع؟

تدخل اميركا القرن مع رئيس جديد وادارة «مختلفة». السياسة الخارجية والقومية فيها يصنعها ـ على الاقل من الناحية النظرية ـ احفاد المقهورين واللون المغلوب والمستعمرات التي شقت طريقها الى الحرية. ولا تزال الشركات الكبرى تحكم كل الحياة في اميركا التي تحركها البورصة والمال والسعي المحموم للثروة والنمو والكنوز الاسطورية، ولكن في المقابل بدأت الاقليات بالظهور كشريكة في القرار السياسي والقومي ولم تعد مجرد اسر معزولة ومبعدة في فقرها. والسؤال هو: اي سياسة سيرسم احفاد اللون المغلوب؟ اي عالم تريد الاقليات؟ ام ان اللون الاسمر سوف ينصهر في حلم الهيمنة بمجرد اندماجه في الحلم والحكم والرغبة في البقاء فوق سدة العالم؟

ان اميركا اليوم بلا خصم او عدو ايديولوجي. وحتى الدول التي تتململ منها سياسيا تتواطأ معها اقتصاديا، مثل الصين او روسيا او الهند. وفي انتظار ان يعثر العالم على حل وسطي بين «فلسفة السوق» وبين امكانية البقاء للفقراء والمساكين والدول المتخلفة، تضطر المنظومة البشرية كلها الان الى التعاطي مع اقتصادها الوطني وفق النظم والقواعد المعمول بها من خلال النظام الاميركي المفروض باسلوب مضمّن ولكن لا مفر منه. فلم تعد هناك رأسمالية واشتراكية في العالم، وانما رأسمالية واحدة تتماهى مع النظرة الاميركية الى الرأسمال. ويقوم نظام البورصة في دولة محدودة الاقتصاد مثل قطر، حيث لا يتعدى حجم التعامل المالي نقاطا قليلة وحيث الشركات المساهمة او الصناعية لا تتعدى الورق او التعبئة. غير ان الاقتصاد العالمي يفرض او يفترض ان يكون في كل بلد « وول ستريت» حيث لم يعد الخيال قادرا بحجم الخسارة والربح، وحيث تحولت 80 الف دولار استثمرها جورج بوش في الاسهم الى 14 مليون دولار خلال عشرة اشهر.

مساء الاثنين الماضي ضربت الامواج الرهيبة باخرة يونانية على الساحل التركي وظلت تعصف بها حتى اغرقتها. ولم تكن الباخرة تحمل ارزا او قمحا وانما كالعادة لاجئين سريين الى اوروبا. وكان هؤلاء، كالعادة ايضا، من المغرب والعراق ومن بنغلادش. وليس اللجوء هو الموضوع او المسألة. لكن المسألة هي الفارق الهائل الذي يزداد هولاً بين العالم الشديد الثراء والعالم الشديد الفقر. وهذا كان موضوع الرسالة التي وجهها ميخائيل غورباتشوف الى جورج بوش في «الواشنطن بوست» آخر السنة الماضية والقرن المأفول، او السنة الفارطة، كما يقول اخواننا في المغرب عن الايام المنقلبة الى بحر العدم ومحيط الظلمات.

كان ميخائيل غورباتشوف احد رموز الاخفاق في القرن الماضي. اخفق في تصحيح النظام الشيوعي واخفق في الابقاء على الاتحاد السوفياتي واخفق في طرح بديل وسط واخفق في معركته مع سياسي منفلت يدعى بوريس يلتسين. ولعل هذه بالذات هي اهمية غورباتشوف. اي رؤية الحالة البشرية العالمية من خلال اخفاقاته. والنظر الى الوضع الدولي السائد من خلال مكامن النجاح والخلل. واعترف معتذرا، انني لا اقرأ دائما ما يكتبه غورباتشوف برغم انه ينشر في «الشرق الأوسط»، فالسياسيون او المسؤولون الذين يتحولون الى كتاب غالبا ما يضيعون بين ما يريدون ان يقولوه وبين ما يجب او يستحسن الا يقولوه. واكثر هؤلاء تخبطا في حيرته الابدية هو غورباتشوف. بعكس نموذج ريتشارد نيكسون او هنري كيسنجر اللذين ظلا على صلة باحداث العالم من الداخل، مع العلم ان الزعيم الروسي السابق يملك مركزا للابحاث على الطريقة الاميركية او الطريقة الغربية. ومع العلم ايضا انني كفرد، ارى في ميخائيل غورباتشوف حالة انسانية خارقة من حالات القرن الماضي، ونقضا انسانيا رائعا لنماذج الديكتاتورية الطاغية التي سبقته.

في رسالته الى الرئيس الاميركي الجديد يقول غورباتشوف ان وضع اميركا في العالم لا يمكن ان يستمر كما هو بسبب الفارق الهائل بين ما يتمتع به قسم كبير من شعبها وبين القسم الاكبر من العالم الذي يعيش في الفقر والذل والتخلف. يقول غورباتشوف: «لقد رسمت السياسة الخارجية الاميركية طوال السنوات العشر الماضية وكأنها سياسة المنتصر في الحرب. الحرب الباردة». غير ان احدا لم يدرك، حتى على اعلى المستويات، ان مثل هذه السياسة لا يمكن ان تشكل قاعدة للتعامل في عالم ما بعد الحرب الباردة.

لا يستخدم غورباتشوف تعبير الكبرياء لكنه يبلغ الرئيس الجديد بان السياسة الخارجية الاميركية قائمة على النظر الى الاخرين بالكثير من التعالي. وحتى اوروبا المستقلة والموحدة لا ترى فيها اكثر من شريك صغير وغير ذي اهمية. ويستبعد غورباتشوف ان يكون من الممكن تطوير العلاقة بين اميركا والصين، او بينها وبين الهند. ويرى خللاً كثيراً في علاقتها مع روسيا، مع انه يحمل مسؤولية ذلك للطرفين.

اذا كان هذا موقف او رأي ميخائيل غورباتشوف، فما هو موقف جاك شيراك من القرن الاميركي الجديد، او من قرن اميركي آخر؟ او ما هو موقف اليابان التي لا تزال خاضعة لمعطيات نهاية الحرب العالمية الثانية؟ او ما هو موقف الصين التي تبتسم للجميع، لكن احدا لا يعرف حقيقة ما تضمر وما تخطط وما تبني لهذا القرن.

لقد وجد ميخائيل غورباتشوف المعزول الحرية لديه في ان يعبر عما كان يفتقده غورباتشوف المسؤول. غورباتشوف الذي هزمته اميركا ثم اختارت حليفا لها بوريس يلتسن الذي بذلت كل الاموال والجهد من اجل ان تبقيه على قدميه. سياسيا وصحيا. والحقيقة ان سؤال اول القرن هو سؤال آخر القرن الماضي: ماذا يحدث للامبراطورية الاميركية؟ كيف تعيد صوغ نفسها؟ كيف تعيد صوغ علاقاتها مع العالم؟