في انتظار «رئىس الوزراء» الأميركي

TT

لم تكن ملاحظة الرئيس الاميركي المنتخب، جورج بوش الابن (في مقابلة تلفزيونية حية في برنامج Saturday Night Live عن نائبه، ديك تشيني، بأنه «رئيس متطلب» مجرد مزحة او زلة لسان... فالمطلعون على علاقة العمل بين الرئيس الاميركي المنتخب ونائبه يتفقون على ان تشيني طراز آخر من نواب الرئىس الاميركيين، ويؤكدون انه لن يكون مجرد رقم 2 في الرتبية الادارية الاميركية ولا كسلفائه، مجرد ظل للرئيس، بل هو محور اساسي في صياغة قرارات البيت الابيض.

ويستشهد المطلعون على سيرة بوش (الابن) وتشيني على ذلك بما حصل في الساعات الأولى التي تلت اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية ليشيروا الى ان تشيني، وليس بوش، هو الذي امسك بزمام معركة مواجهة آل غورسياسيا واعلاميا. وكان هو الذي اتخذ القرار المؤثر بتكليف زميله القديم، جيمس بيكر، ترؤس الفريق القضائي المكلف بنقض طعون فريق آل غورلنتائج الاقتراع الرئاسي في ولاية فلوريدا. وبعدها بأيام معدودة كان تشيني، لا بوش، قائد حملة تجييش الرأي العام الاميركي لصالح طروحات الحزب الجمهوري، فيما كان بوش ينأى بنفسه عن المعمعة السياسية والقضائية محتجبا عن الانظار في مزرعة هادئة...

والمطلعون على شخصيتي الرئيس المنتخب ونائبه يقولون ان بوش (الابن) وتشيني يكملان بعضهما بعضا، على اعتبار ان تشيني يمتاز بالخصال السياسية التي يفتقدها بوش فهو حريص على معرفة التفاصيل وعلى ملاحقتها، فيما تقتصر اهتمامات بوش على الاطلاع على الخطوط العريضة لسياسة فريقه الاداري. وبالاضافة الى ذلك، يعتبر تشيني خبيرا بدواخل اللعبة السياسية في واشنطن وكواليسها ـ بحكم تسلمه مسؤوليات رسمية في العاصمة الاميركية منذ كان في الرابعة والثلاثين من العمر ـ فيما يفضل بوش اجواء العمل السياسي في ولاية تكساس. ويؤكد المراقبون ان العلاقة الشخصية بين المسؤولين الاميركيين الاولين تعزز توقعات القائلين أن تشيني سيكون شريكاً في قرارات البيت الابيض فتشيني معروف بولائه المطلق لبوش الذي يضع ثقته الكاملة به. والواقع ان هذه الثقة بالذات كانت العامل الاول في اختياره لنيابة الرئاسة.

ويتفق المراقبون للثنائي بوش ـ تشيني على توقع ان يصبح تشيني اول نائب رئيس «نافذ» في تاريخ الولايات المتحدة ويذهب بعضهم الى حد القول انه سيكون، بحكم نفوذه، أول «رئيس وزراء» للادارة الاميركية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا لا يوظف العرب النفوذ المتوقع لتشيني في نيابة الرئاسة الاميركية لمصلحة قضيتهم الكبرى في الوقت الراهن، اي التسوية السلمية في الشرق الاوسط؟

مبررات هذا السؤال تعود الى السيرة السياسية لتشيني اكثر مما تعود الى تخمين في غيبيات.

وغير خاف علينا انه منذ اختار بوش تشيني نائبا له في معركة الانتخابات الرئاسية الاخيرة انطلق المحللون من مختلف التيارات السياسية في «حملة تمشيط» لسيرته، بدءا بسجل تصويته على الشؤون المعتبرة مفتاحية في الولايات المتحدة وانتهاء باحاديثه أو تصريحاته الصحافية. الا انه على صعيد مواقفه من السياسة الاميركية الخارجية، وتحديدا السياسة الشرق اوسطية، لا يزال موقفه المؤيد للحرب ضد العراق، عام 1991، طاغيا على اي موقف آخر.

ولكن قَصر سياسة تشيني الشرق اوسطية على هذا الموقف البارز فحسب يغمط نائب الرئيس الاميركي حقه في المواقف الاخرى الاكثر شمولية، ويحط، بصورة خاصة، من موضوعية تقويم نظرته الاشمل الى نزاع الشرق الاوسط. وفي هذا السياق تقتضي العودة الى مقابلة اجريت معه عام 1989 قال فيها انه حرص على الاستماع الى كل الاطراف المعنية بالنزاع العربي ـ الاسرائيلي، وأصبح يدعو الى «سياسة اكثر توازنا» بغية تحسين العلاقات (الاميركية) مع الدول العربية.

وقبل هذا التصريح ببضع سنوات، وتحديدا عام 1982، اتخذ تشيني موقفا اكثر جرأة باعلانه ان «اي تسوية لهذا النزاع (العربي ـ الاسرائيلي).. يجب ان تتضمن قيام دولة فلسطينية».

وفي اطار محاولة تقويم مواقف تشيني من النزاع العربي ـ الاسرائيلي يبدو لافتا ان عددا من الناشطين في ممارسات «اللوبي الاسرائيلي» في الولايات المتحدة لم يخفوا «تحفظاتهم» حيال تشيني، وذهب بعضهم الى حد اتهامه باقامة علاقات تجارية مع مؤسسات نفطية في محاولة منهم لوضع تشيني، والمصالح النفطية الاميركية، في خانة المؤيدين للعرب والمناهضين لاسرائيل.

في ضوء هذه المعطيات، وعلى خلفية القناعة السائدة في اوساط العرب الاميركيين من ان الرئيس المنتخب، بوش، ان لم يكن اكثر تفهما للموقف العربي من ازمة الشرق الأوسط هو قطعا «أقل» انحيازا للجانب الاسرائيلي، يجوز التساؤل: لماذا هذه العجلة الفلسطينية في الاستفسار عن «غوامض» مشروع الرئيس بيل كلينتون، والمسارعة في الرد على المشروع، ومحاولة تقديم مجد تحقيق السلام في الشرق الاوسط الى كلينتون، وهو في اضعف أيامه وليس فقط في أواخرها؟

ولماذا هذا الانجراف في الاعتماد على كلينتون في وقت يبدو فيه الرهان على تشيني ـ وعلاقته المؤثرة على بوش ـ اسلم من الاستمرار في ملاحقة سراب الحل «الكلينتوني»؟

لو كان كلينتون حريصا على تحقيق السلام في الشرق الاوسط من منطلق القناعة السياسية والذاتية في الحقوق العربية ـ وليس من منطلق النزعة الشخصية، وربما الانانية، لدخول التاريخ كبطل سلام الشرق الاوسط ـ لكان قد حسم امر هذا السلام، وهو في اوج نفوذه، وتحديدا في بداية ولايته الثانية. آنذاك، لم يكن يملك نفوذ رئىس الدولة الاولى في عهد الزعامة الاحادية فحسب، بل ايضا الوقت الكافي (أربع سنوات) للخروج بتسوية منصفة، وغير مسلوقة، لنزاع لا يختلف اثنان على ان تعقيدات حله توازي تعقيدات مشكلته إن لم تكن تفوقها، ناهيك من ان التأخير في حله اتاح للاسرائيليين فرصة ذهبية لتوسيع نطاق أمر الواقع الاحتلالي في فلسطين وتسبب في اراقة المزيد من الدماء وايقاع المزيد من الخراب والدمار.. ولا يزال.

لا جدال في ان نقطة ضعف اي تخمين سياسي مستقبلي الطابع تكمن في حتمية غوصه في غمار الـ«لو...».

مع ذلك، واستنادا الى اكثر من معطى واحد يوحي بان ادارة بوش ـ تشيني ستكون «اقل» انحيازا للجانب الاسرائىلي، يصح طرح السؤال الكبير :«لو» أن تسوية النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي تأخرت الى ما بعد تسلم الادارة الاميركية الجديدة مقاليد السلطة في البيت الابيض.. ألا يمكن توقع ان يصب هذا التأخير في صالح مكاسب أفضل للقضية الفلسطينية؟

المنطق السياسي التقليدي يرجح خيار التأخير وإن بداعي انتظار مساهمة ادارة اميركية اقل انحيازا لاسرائىل في التسوية المنتظرة.. «لو» لم تكن الانتخابات الاسرائيلية عاملا متداخلا مع الحسابات المستقبلية و«لو» لم تكن المؤشرات الراهنة توحي بأن اليمين القومي الاسرائيلي يستعد للوثوب من جديد على السلطة. ولكن، حتى مع أخذ هذا العامل في الاعتبار، يبقى الرهان على دور تشيني في التسوية السلمية مرهونا بفرضية لا علاقة للمنطق السياسي بها بقدر ما «للقضاء والقدر» من دور فيها، فنائب الرئيس الاميركي تعرض لأربع نوبات قلبية منذ العام 1978 وخضع لعملية جراحية في شرايين القلب عام 1998 ولعملية اخرى بعد الانتخابات الرئاسية في اعقاب ما اصابه من ارهاق بسبب مفاجآت فصول مسرحية فرز الاصوات واعادة فرزها في ولاية فلوريدا. ومن نافلة القول انه حين تصبح الفرضيات السياسية مرهونةً بالقضاء والقدر تنتفي استنتاجات المنطق البشري لتحل محلها حسابات «لا حول ولا قوة فيها الا بالله العلي العظيم».