أدبيات بلفورية

TT

«من لا يملك أعطى لمن لا يستحق»

اشهر كلمة قيلت عن وعد بلفور وخلافا لما يظن البعض فإنها لم ترد في خطبة لعبد الناصر انما اولا في رسالة للرئيس الاميركي جون كيندي كتبت في الاسكندرية وتحمل تاريخ الثامن عشر من اغسطس (اب) 1961.

والعبارة ملاحظة اولى من عدة ملاحظات مسهبة حاول الزعيم الراحل ان يلخص من خلالها وجهة نظره العملية وليس العاطفية من الصراع فهو يكرر اكثر من مرة في تلك الرسالة انه لا ينطلق من فورة عاطفية، ولا يشبه اولئك الزعماء العرب الذين يحرضون واشنطن ضده ويقولون للرأي العام الدولي شيئا مختلفا عما يروجونه للاستهلاك المحلي.

وكان الرئيس كيندي قد بادر بالكتابة الى عبد الناصر وارسل له رسالة في الحادي عشر من مايو (ايار) من ذات العام يبدي فيها استعداده للتوسط من اجل حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين اما بالعودة الى ديارهم او بتعويضهم. وهذا موقف يختلف كثيرا عن الادبيات السياسية الاميركية الاحدث التي لا تذكر غير التعويض وتلغي بالكامل حق العودة الذي أقر به كيندي خطيا.

وليس من المعروف تماما لماذا تأخر عبد الناصر ثلاثة أشهر في الرد ففي رسالته يعتذر عن ذلك ويعيد التأخير الى ضرورة دراسة الرسالة الرئاسية الاميركية بتعمق. لكن المرجح انه اعطى نفسه فرصة لاستشارة حلفائه الروس الذين كانوا يمدونه بالسلاح ويبنون لمصر السد العالي، فمحاورة الاميركيين دون علمهم سيعتبرونها طعنة في الظهر لا تحتملها سياساتهم الحساسة في المنطقة.

والعبارة الكاملة التي صارت من اشهر صفات وعد بلفور ترد في الرسالة كما يلي:

«لقد اعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق ثم استطاع الاثنان (من لا يملك ـ ومن لا يستحق) بالقوة والخديعة ان يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه فيما يملكه وفيما يستحقه. تلك هي الصورة الحقيقية لوعد بلفور الذي قطعته بريطانيا على نفسها وأعطت فيه من ارض لا تملكها، وانما يملكها الشعب العربي الفلسطيني، عهدا بإقامة وطن يهودي في فلسطين».

وقد شاع السطر الاول عربيا لبلاغته فخير الكلام ما قل ودل، لكن عبد الناصر لم يلتزم بهذه القاعدة في بقية الرسالة، فهي ثلاثة اضعاف رسالة كيندي ويعرج فيها الرئيس المصري على قضايا كثيرة لكن ـ والحق يقال ـ ظل للقضية الفلسطينية نصيب الاسد من رسالة الزعيم وما قاله فيها عن الاخطار الآتية والمترتبة على كثافة الهجرة اليهودية التي لا حل لها غير التوسع والحروب أثبت الزمن صحته.

لقد كان الرجل ثاقب النظر ونير البصيرة وصاحب رؤية استراتيجية وئدت في مهدها ليخلو الجو للمشروع الصهيوني المدعوم اميركيا. فقد اغتيل كيندي بعد تسلم رد عبد الناصر المرن والمعتدل وأتى بعده رؤساء افتقروا لحنكته واستقلاليته واضطروا منذ خليفته جونسون الى اعلان انحيازهم الكامل لاسرائيل فلم يعد هناك حاجة للرسائل ولا للردود بعد ان ضم من لا يريد ان يفهم جهده لمن لا يملك ولمن لا يستحق.