الثابت والمتحول في تناقضات بلير

TT

يبدو ان زعيم حزب العمال البريطاني ينفرد بسيطرة واضحة في ساحة السياسة البريطانية في ظل عدم وجود منافس جاد له في الأفق. إلا ان بلير يعاني من مشاكل مع الناخبين لم تحدث له منذ وصوله الى رئاسة الحكومة البريطانية عام 1997. رغم ذلك فإن بلير يعتبر في نفس الوقت ايضا الزعيم الاكثر اهمية في السياسة الاوروبية الخارقة للطبيعة، التي يتعين عليه ان يعود الى حظيرتها مجددا ولكن بشيء من الحذر والمهارة بعد فترة من الانفصال.

هذه هي التناقضات التي تلف رئيس الوزراء البريطاني الذي يتسم بقوة العزيمة والتزام الجانب الاخلاقي. فجزء كبير من هذه التناقضات نابع من صداقته السياسية الغريبة مع الرئيس الاميركي جورج بوش ومن القرار الذي اتخذه بدون تردد بشأن خوض الحرب في العراق الى جانب الولايات المتحدة.

يعتقد الكثيرون في اوساط الرأي العام البريطاني ان بوش ربما لم يقدم على غزو العراق بدون تأييد توني بلير له، اذ يشعر هؤلاء بالاستياء تجاه بلير لهذا السبب. فيما يشكو آخرون من ان بلير لم يحصل من واشنطن على الكثير لقاء المخاطر الهائلة التي دخل فيها.

هذه بالطبع مفاهيم ووجهات نظر قابلة للجدل والنقاش. فالأمر الأكثر وضوحا اليوم هو ان النفوذ الاميركي على اوروبا، التي تتسم بالتقلبات والتغيرات المستمرة، يعتمد أولا وأخيرا على رؤى بلير وطاقته وقابليته للنجاح والفعالية المستمرة، فهو بهذا المعنى يعتبر دون شك حليفا لا غنى عنه للولايات المتحدة.

على الصعيد الداخلي تأكد تفوق توني بلير الاسبوع الماضي عندما قدم له المحافظون هدية ثمينة بسحب الثقة من زعيم حزبهم إيان دانكان سميث في محاولة يائسة للعثور على زعيم للحزب تتوفر له المقدرة اللازمة لمنافسة بلير. جاءت تطورات حزب المحافظين الاخيرة بعد ان تغلب بلير في وقت سابق بالحجة والإقناع على منتقديه من الجناح اليساري داخل حزب العمال في مؤتمره السنوي الاخير في سبتمبر (أيلول) الماضي.

إلا ان تجاوز بلير لهذه العقبات لا يعني بالضرورة عدم وجود عقبات مستقبلية تعترض طريقه، فالناخبون يلقون على حكومته مسؤولية التردي في خدمات مثل السكك الحديدية وتعثر الاصلاحات المفترض اجراؤها على الخدمات الصحية وما يشكله ذلك من خطر على الوظائف في هذه القطاعات.

فاقم من هذه الشكاوى الشعور بأن بلير يخصص وقتا اكبر للشؤون الخارجية، لا سيما في علاقته مع بوش الذي تشير استطلاعات الرأي الى تراجع شعبيته في اوساط الرأي العام.

وكان مستشار لتوني بلير قد علق قائلا ان نتائج استطلاعات الرأي اشارت الى ان «الشعب يريد عودة حكومته» وأن بلير يجب ان يهتم بهذا الأمر.

اتضح لي من خلال ثلاث زيارات قصيرة الى انجلترا خلال الشهرين الماضيين ان توني بلير سيشارك على نحو واضح في الشؤون الداخلية، إلا ان ذلك ربما يؤدي الى تراجع التزامات بلير ازاء الشؤون العالمية والاوروبية، وهي التزامات يرى الكثير من المراقبين انها ظلت ثابتة وذات فائدة.

لم ينضم بلير الى غزو العراق سعيا لإرضاء بوش او لتحقيق مكاسب فورية لبريطانيا. فقد نشأت بينهما علاقة شخصية قوية افضل في بعض النواحي من علاقة الصداقة التي جمعت بين بلير والرئيس الاميركي الاسبق بيل كلينتون، إلا ان الامر عندما يتعلق بالعمل معا فإن التقلب والتردد غالبا ما يسيطران على الموقف.

فقد ذكر واحد من مستشاري بلير انه في نهاية اجتماع له مع بوش خرج ولديه شعور بأنه لم يتم التوصل الى اتفاق او انه اذا كان هناك اتفاق، فإنه سيلغى في اليوم التالي. وعلق المستشار قائلا ان ما حدث ربما لا يكون امرا غريبا بالنسبة للقادة الاجانب الذين يتعاملون مع الادارة الاميركية الحالية، إلا ان مثل هذه الاشياء مرهقة للاعصاب عندما يهم طرف بخوض حرب مع طرف آخر.

بلير رفض التهم التي وجهت له بأنه خاض الحرب ضد العراق ارضاء لواشنطن مؤكدا، كما علق قبل شهور خلال حديث وجهه الى معارضيه داخل حزب العمال، بأنه خاض الحرب لأنه «يؤمن بالاسباب الداعية لشنها».

هناك في واقع الامر جانبان وراء التزام توني بلير المكلف في العراق. فهناك وجهة النظر التي عبر عنها بلير نفسه لزميل له في الحكومة قبل سنوات بقوله ان «مكان بريطانيا الطبيعي في الأزمات الى جانب الولايات المتحدة». فيما قال زميل له ان بلير يشعر بأن «اكبر خطر يواجه العالم هو قوقعة وانعزال الولايات المتحدة وخشية عدم وقوفها الى جانب بريطانيا او اوروبا عند الحاجة لها».

إلا ان ذلك لا يعني بالضرورة اختيار الولايات المتحدة بديلا لاوروبا، فقد استأنف بلير خلال الاسابيع الاخيرة بناء الجسور مع فرنسا وألمانيا في خطوة قال واحد من مستشاريه انها «محاولة لبناء بديل مقبول لنهج الادارة الاميركية الاحادي الجانب» الذي يتوقع ان يستمر في الغالب اذا جعلت فرنسا ودول اخرى عرقلة الولايات المتحدة هدفا أساسيا للاتحاد الاوروبي.

استراتيجية بلير الدبلوماسية يمكن ملاحظتها في المعاني المتضمنة في أحاديثه وحتى في صمته أحيانا. لكنه كان واضحا وصريحا فيما يتعلق بالجانب الثاني لالتزام بريطانيا المكلف في العراق، أي اعتقاده بضرورة التدخل في العراق لاسباب انسانية. فقد استمعت الى بلير وهو يتحدث لأول مرة حول هذه القضية في محادثات غير رسمية قبل عشر سنوات تقريبا، لكنه صاغ هذه القضية في كلمة مؤثرة ألقاها في 22 ابريل 1999 في «نادي شيكاغو الاقتصادي».

ثبات موقف توني بلير ازاء علاقة بلاده مع الولايات المتحدة حجبه قراره الخاص بتكوين قضية متكاملة ضد العراق حول مزاعم امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. ولكن تلك الخطوة الخاطئة، بالإضافة الى مشاكله الداخلية، لا تنفي المساهمات الاستراتيجية المهمة التي قدمها بلير، ويجب ان يستمر في تقديمها، لأمن الاطلسي والعدالة الدولية.