تأهيل الشباب.. الأبعاد والأهداف والمخاطر

TT

اتخذت المملكة العربية السعودية واحداً من اهم قراراتها الاستراتيجية والمفصلية مؤخرا، وذلك بإنشا 20 كلية تقنية و39 معهد تدريب تقني، والبدء في مشروع التدريب العسكري. والقرار في ابعاده المتعددة والعميقة يصب في افق المستقبل، ويعالج قضايا هذا الزمن المتشابكة عبر تأهيل الشباب وتدريبهم واستيعاب طاقاتهم.

والقراءة الاولى للمشروع، تشير الى انه مشروع تنموي وليس ربحياً. إذاً هذا القرار يتضمن «مشروعاً بشريا»، وتلك المشاريع عبارة عن مصانع للبشر، والمصانع تحتاج الى دراسة جدوى وكذلك الكليات والمعاهد. ووفق ادبيات الاقتصاد الحديث المعروفة، فان الجامعة ايضا عبارة عن مصنع، والطلبة هم «المنتج»، والاساتذة هم «العمال والمهندسون» المشرفون على مراقبة المنتج، والمناهج ووسائل التعليم هي «آلات الانتاج» التي تضفي على المنتج «الطالب» ذلك التغير «الايجابي» في ذهنيته وعلمه، وما يطلبه السوق يتبناه المصنع الذي ينتج، ويصمم خط انتاجه بصوره علمية. كما ان ما تتطلبه الحياة العملية من اختصاصات وأعمال تتبناه الجهة العلمية، وتصمم سير مناهجها وترتيبه «خط الانتاج» وفق ما يحتاج هذا التخصص.

واذا عدنا الى المشروع التدريبي، فلا بد من التأكيد هنا أهمية دراسة سوق العمل السنوي، وما يحتاج من حرف وأعمال من حيث نوعيتها وتنويعا وتطورها، وكذلك دراسة العدد المطلوب، حالياً ومستقبلاً في السوق، واضعين في الاعتبار ان ذلك السوق قابل ومهيأ للتطور.

وانطلاقا مما سبق، ينبثق الى الذهن تساؤل بسيط: ما هو الهدف في الاساس؟ هل هو حل ازمة البطالة فقط؟ أم السعودة؟

رغم كل تلك الأهداف المشرعة النوافذ، إلا ان الهدف الاستراتيجي الأساسي يجب أن يبقى في دائرة تحقيق النمو الاقتصادي. ولأن تأهيل الشباب لسوق العمل لتنميته لكي ينمي الاقتصاد ويعود الاقتصاد لينمي القوة البشرية لتنمي سوق العمل، وهكذا تدور في حلقة مفرغة، لذلك يجب تأهيل الشباب بشكل نموذجي وفقا لما يحتاجه الواقع، ولتطور السوق، لأن نموه الاقتصادي يأتي تبعا لتطور السوق، اذ ان السوق هو الأساس لربط الحلقة*.

وفي منحى آخر، نجد ان اهم الاسواق السعودية هي المؤسسات الصناعية التي تشوبها بعض الملاحظات، فهي مثلا مؤسسات تصنيعية ولم ترق الى المستوى التكنولوجي بعد، وهذا ما يجعلها اسيرة التقنية الغربية، كما ان هذه المؤسسات الصناعية ذات خبرات ادارية تحتاج الى مزيد من السعة والعمق، ولا اقصد هنا أنها سيئة، وان كانت محاصرة بـ «لوبيات» أجنبية تخلق العلل وتؤجل الافكار، وتساير في «الحديث» لكي لا تخسر مراكزها وامتيازاتها. ويمكن ان نلحظ في هذه الاطر ان هناك ايضا، فوضى في الانتاج لدى هذه المؤسسات الصناعية، إذ تعود المصانع لنفس المنتج مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار المؤدي بدوره تلقائياً إلى «تدحرج» مستوى الجودة للمحافظة على الربح. فمدخلات مصانعنا تأتي من خطوط عمالة رخيصة أكثر مما هي عمالة مدربة، بل إن بعضهم تدرب في السعودية،* ولا بد أن نضيف هنا، أن مؤسساتنا الصناعية تلك ذات إدارات تقليدية، وآلات إما قديمة وإما آلات حديثة جداً ذات تكلفة غالية الشراء، وصيانة أكبر من دخل السوق. كما تفتقر تلك المصانع إلى المعلومات «Data Base» لإجراء دراسات لتطوير الأداء مثلاً: معرفة ما بيع في السنوات الماضية من «منتج» ما وذلك لوضع دراسة «توقعية» كما يحدث في دول العالم المتطور، وكم يجب أن ينتج المصنع في المستقبل، وكيفية ضبط حالته الإنتاجية وفقاً لذلك، أو معرفة طلب السوق واحتياجاته كترتيب جدولة إنتاجه، وعدم الإنتاج « فوق السوق» وفق المصطلح الاقتصادي المعروف واللجوء إلى المخازن التي تكلف رأس مال المصانع كثيراً في ناحيتي الأجرة والحماية والصيانة، واليابانيون يسمون المخازن « الشيطان المحبب» لأنه يحل مشكلة خلل التخطيط الانتاجي، ولكنه مكلف وغيره وغيره من المشاكل.

وبغض النظر عن تلك المثالب فإن المصانع «موجودة» وقائمة لوجود المستهلك «السوق الاستهلاكية» الذي هو شريان الحياة الصناعية، فبدونه «تفلس وتموت»*.

ولكن لعدم وجود البديل، تنجح هذه المصانع بكل ذلك «الركام» الهائل من المسائل التي تناقض النظريات الاقتصادية الحديثة. ومن هنا يحق لنا ان نتساءل: كيف يكون الوضع بعد هدير وفيضانات العولمة القادمة؟ ماذا سوف يكون عليه وضع مصانعنا؟ وما هو وضع شبابنا، ونحن نبدأ «الآن» فقط بتدريبهم؟ فالشركات الاجنبية غير مطالبة بذلك وستأخذ السوق او كما يقول أهل مصر «تأكل الجو» ولن تحل مشكلة البطالة. لذلك فإنني اميل الى ضرورة تطور المصانع السعودية، والزامها بالتطوير عبر خلق قوانين الزامية تراقب وتتابع بصرامة ادارية جادة، لأن المنافسة في حلبات العولمة خاضعة للنمو الصناعي بين القوى المتوازية، مع ضرورة الملاحظة والانتباه الى ان عدم الانضمام الى العولمة سيؤثر على الدخل الوطني، وخصوصاً البترولي، ولكن على المدى البعيد سيكون النمو الصناعي هو «ضابط التوازن» والموجه الى نمو أكبر. وهنا يمكن القول ان المطالبين بعد ذلك «التوجه» هم فقط من محبي المكابرة والادعاء للمعرفة، ورفع شعار كلمة «الاصلاح» الجديدة وهم يضربون مثلاً بالصين وكيف دخلت اسواق المنافسة مع عمالقة الاقتصاد العالمي ويقولون: لماذا لا ندخل مثل ما دخلت الصين؟ وربما لا يعلمون أن احوال الصين تختلف عن احوالنا، فالصين دولة فقيرة المعادن، كثيرة السكان، منتجاتها الغالية في خطتها للعولمة للتصدير بينما الاستهلاك للمنتجات الرخيصة وتوظيف الملايين من الايادي العاملة المتراكمة في كشكات الشيوعية في تلك الشركات القادمة ويتحول الى دخل للصين. إن اولئك المطالبين ـ والغريب ان بعضهم من حملة الدكتوراة الذين يحبون الانتقاد والتشكي أكثر من طرح الحلول، وذلك من اجل الظهور والوجاهة الاجتماعية، انهم لا يعرفون ان حلولهم متوفرة في اي كتاب عن التجربة اليابانية او الاوربية او الصينية، لكن التجارب لا تقلد بل ينظر اليها بإمعان للاستفادة منها، ولأن تقليدها مستحيل لاختلاف الظروف الاستهلاكية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولقد من الله علينا بالعقل لنكتشف ونبتكر وسائل جديدة لخلق أسواق لنا يبنى عليها إنتاجنا، ولا ننسى القاعدة الذهبية «خيال ـ علم ـ عمل»*.

واذا عدنا الى موضوعنا الاساسي حول تأهيل الشباب ينبغي ان نطرح تساؤلاً جوهرياً آخر:

ما هو هدف الشباب من العمل؟* إنه وبكل تأكيد يسعى الى تحقيق دخل يتوافق مع متطلبات العصر، وليحقق استقراره الاجتماعي. لا بد من وجود دخل يمكنه من دفع أجرة بيته واحتياجاته اليومية، وامتلاك وسيلة نقل ليست غالية ولكن تقوم بنقله، والدخل يأتي من المصنع، والمصنع لا بد ان يرفع اجر العامل، فإذاً لا بد ان يرفع تكلفة السلعة، ولا بد ان يرتفع دخل المشتري لكي يستطيع تحمل الاسعار، لذلك لا بد من زيادة الرواتب في كل القطاعات لخلق قوة استهلاكية تستغلها قوة استثمارية يكون نتاجها دخلاً للمجتمع والدولة معاً، وفوق كل ذلك تنبع الاهمية القصوى لإنشاء مراكز الابحاث العلمية عبر الجامعات واستغلال قدرات اساتذة الفيزياء والكيمياء والهندسة لتوطين التقنية تبعاً لمتطلبات السوق والاحتياج التقني المستورد*.

وعبر الزمن يأتي النمو والتحرر تدريجياً على ان تكون البنوك «القوة المالية» روافد تدعم الشركات، وتصبح الشركات داعمة اساسية للاختراعات* وتعود بعد ذلك بالربح على الشركة، فالشركة بعد ذلك على البنك وهكذا. وعلى صعيد التأهيل البشري لا بد من مراعاة تغير التقنية المتواصل وتطوراتها واشكال العمالة و«ياقاتها» المتحولة مع الزمن، اذ ان من المحتمل انتهاء دور العامل «البشري» باحلال الروبوتات

«Robotes» محله؟ وهذا بالطبع لا يعني نهاية الايدي العاملة بل تحولها من شكل الى آخر في برمجة الآلات، واختلاف انواع البرمجة، والمواقع داخل المصنع على المدى الزمني البعيد او القريب.

ان تلك الرؤى التي اقترحها لا يمكن ان تحدث ما بين يوم وليلة، ولكن آليات تفعيلها تأتي عبر الدفع والحركة تنمية في الخلف، ثم اخرى دفع في الامام ليتغذى الوسط، ويعود لينمي الامام والخلف.

ان البلد القادر على صنع سيارة قادر على صنع دبابة، والبلد القادر على صنع المحرك قادر على صنع طائرة وسفينة وصاروخ. لذلك فإن تنمية التصنيع تنمي التكنولوجيا ثم تنمي القوة العسكرية لتقوي وتدفع السياسة لان الهدف الاساسي قوة الدولة ونموها عبر الزمن. علينا ألا نقلد الصين واليابان واميركا او ماليزيا، علينا ان نبتكر الطريق المناسب لأسواق جديدة وإنتاج آخر لنا بسواعد وعقول سعودية مع الاستعانة بالخبرات الاجنبية. ان السواعد التي شيدت هذا البناء الشاهق مع الملك عبد العزيز ووحدته، هي ذات السواعد التي سوف تحمي هذا الوطن ولكن بأسلوب آخر.. وباحتياج العصر.