ليلتان في تاريخ العراق..

TT

كثيرا ما تحتفظ ذاكرتنا بوقائع واحداث لا ينال من حضورها تعاقب السنين. نسترجعها، متى اردنا، بالكتابة أو الحديث كي نتأمل فيها ونستخلص منها العبر ما دمنا قادرين على استذكار واثق أمين. وفي ذاكرتي عن العراق حدثان كلاهما مليء بالعبر.. حزين..

في ساعة متأخرة من ليل يوم الاثنين، الرابع عشر من شهر تموز (يوليو) عام 1958، هبطت بنا طائرة KLM في مطار بغداد، للتزود بالوقود، وكنا في طريقنا من كراتشي الى دمشق، كانت ليلة لا تنسى، كل ما فيها يوحي بالوحشة وانقباض النفوس..! كان الجو حارا... ثقيلا.. خانقا.. ومطار بغداد يلفه صمت كئيب مريب لا حركة فيه ولا ازدحام، كأنه قد افرغ عمدا من المسافرين والعاملين فيه..!

شعرت بالضيق، وانتابني احساس بالخوف مما يحيط بنا من جو غامض غريب. ولم تهدأ مشاعري الا حين اقلعت بنا الطائرة بعد ساعة من الانتظار، حسبتها دهرا من القلق والتوتر والخوف من المجهول.

لم أكن أعلم ان تلك الليلة المشحونة بالجو الخانق الكئيب، والصمت المخيف المريب، ستكون ليلة سوداء في تاريخ العراق. فما ان وصلنا مطار دمشق بعد ساعات من اقلاعنا حتى علمنا ان انقلابا داميا جرى في بغداد.. واصابني الذهول وانا استعيد مشاعر القلق التي عشتها في مطار بغداد لسبب خاف مجهول..!

وتوالت الاخبار تنقل تفاصيل الانقلاب، وما اقترن به من عنف دموي ومجزرة رهيبة، قتل فيها الملك الشاب، ووالدته وخاله ومن كان معهم في قصر الرحاب. ولم يشفع للناجيات من النساء لجوؤهن لكتاب الله يرفعنه طلبا للرحمة والامان..! وما ازال اذكر كيف خرجت المظاهرات في دمشق صبيحة اليوم التالي للانقلاب تهتف للانقلابيين.. للقتلة الآثمين بواحدة من اشد الكبائر عند الله، تهتف بحياتهم وتبشر العراق بعهد جديد، وما تدري تلك الجموع الجاهلة المسيرة بأنها تهتف لليوم الذي دمر فيه العراق..!

ومرة أخرى، حطت بنا الطائرة ليلا في مطار بغداد.. كان ذلك في يوم 17 من شهر نيسان (ابريل) عام 1966، حيث توجهت الى العراق على رأس وفد رسمي لاقدم تعازي بلادي في وفاة الرئيس عبد السلام عارف، الذي سقطت به طائرته المروحية بعد ثمانية اعوام من الانقلاب الذي اجهز على الاسرة الهاشمية الحاكمة في العراق. كانت بغداد عندما وصلناها ليلا غارقة، ايضا، في ظلمة حالكة، وسط اجراءات أمنية مشددة تحسبا لاية محاولة انقلابية عليها، وكانت القيادة العراقية الجديدة التي تقبلت تعازي الوفود، مكونة من الرئيس عبد الرحمن عارف، والدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء والدكتور عدنان الباججي وزير الخارجية. لم يمض على العهد الجديد عامان، حتى انقلب عليه اقرب الناس اليه، وسارع صدام حسين ليصادر، بالشجاعة والخديعة، هذا الانقلاب لحساب حزب البعث في العراق، وبدا نجمه بالصعود على نحو ما هو معلوم.

الرئيس عبد الرحمن عارف استجاب صاغرا للواقع الجديد، اخذوا منه الحكم واعطوه الامان، الدكتور عبد الرحمن البزاز استاذ القانون الرجل العربي النظيف الشريف، مات فاقد البصر، بعد ان عانى في سجون صدام من المهانة والعذاب ما لم يقو على احتماله. وآثر الدكتور عدنان الباججي النفي الاختياري، تحاشيا للمواجهة، واقام في الامارات العربية المتحدة، ليعود بعد خمسة وثلاثين عاما الى بغداد عضوا في مجلس الحكم الانتقالي.

الذين تابعوا تاريخ العراق منذ انقلاب عام 1958، يعرفون المصير الذي انتهى اليه هذا البلد العربي المسكين، كأن لعنة من السماء قد حلت به ليعيش الظلم والطغيان والحروب والدمار. كان انقلاب 58 ايذانا بانقلابات دموية متعاقبة، ذهبت بأمن العراق ورخائه واستقراره، شهدت البلاد معها احداثا مأساوية لا تنسى، من الاغتيالات السياسية المفزعة والمحاكمات العسكرية المثيرة للرعب، واستهانة بحقوق الانسان استهانة لا تجدي معها شفاعة شفيع. وباستيلاء صدام حسين وحزب البعث على الحكم، في شهر تموز عام 1968، دخل العراق في عهد من عهود الظلام، اتى على كل ما بقي لشعب العراق من ولاء المواطنة، وذاق معه اسوأ صنوف البطش والرعب والخراب.

تواردت هذه الخواطر وأنا اشاهد على شاشة التلفزيون مؤتمر المانحين لاعادة اعمار العراق في مدريد، ومظاهر الخراب الذي لحق بهذا البلد العربي الكبير، الذي كان، حتى 58، موطنا للثراء والرخاء والاستقرار.. موطنا للادباء والشعراء والمثقفين والاكاديميين من شتى التخصصات، موطنا يزهو على غيره بثروة نفطية هي ثاني مخزون في العالم، ونهرين كبيرين يحتضنان ارضه الخصبة، ومجلس اعمار يقوم على شؤونه عراقيون ذوو خبرة واقتدار، لقد عبث المغامرون الجهلة بهذا البلد العربي واوردوه مورد الهلاك..! خمسة واربعون عاما في حياة العراق بددت ثروته، واذلت شعبه، وانزلت الاسى والحداد في كل بيت من بيوته، وانحدرت به لهاوية من اليأس والبحث عن البديل حتى لو كان البديل احتلالا امريكيا..!

إن الغزو الامريكي للعراق هو احتلال عسكري جائر لبلد ذي سيادة لا تمنحه الشرعية قرارات مجلس الامن، ولا مبررات الدفاع الوقائي عن النفس، ولا تحرير العراق من (نظام طاغ مستبد). إنه خرق فاضح لكل المواثيق الدولية، واستخفاف بمعارضات الشعوب ومؤسسات القانون واستفزاز لمشاعر العرب واستهانة بهم وبوزنهم الدولي. ومع ذلك كان شعب العراق في موقف المتفرج من اجتياح ارضه وسمائه، وجيش العراق يتوارى ويلوذ بالفرار كأن الوطن ليس وطنه. وسقطت بغداد (حاضرة بني العباس وعاصمة الرشيد..!) في ثلاثة اسابيع، وكان غزوا بلا خسائر سهل التكاليف، قتل فيه مائة جندي امريكي، العديد منهم في حوادث، والقليل منهم في قتال..!

يقول المعلقون ان الامريكان باقون في العراق، ولا يعتقدون بأن خسائرهم اليومية ستدفع بهم لخروج سريع منه، لأن الولايات المتحدة دولة قوية لديها القدرة على مواجهة الامور.. فقد كانت خسائرها في فيتنام ثمانية وخمسين الف قتيل.

ربما كان ذلك صحيحا.. الا اذا استجد من الامور ما يربك الحسابات ويقلب المعادلات ويفرز واقعا جديدا لم يكن في الحسبان..

إن الذين سيدفعون بالولايات المتحدة الامريكية لمغادرة العراق، اجبارا أو اختيارا، هم (الاغلبية الصامتة) من شعب العراق، الذين يراقبون تطور الاوضاع، ويتطلعون لعهد عراقي جديد من الحرية والوحدة الوطنية والعدالة والأمن والرخاء الاقتصادي، عهد ينسيهم مصائب حكم الطغاة والمغامرين، يلتزم بسيادة القانون، ويعزز شعور الولاء للوطن، عندئذ لن يبقى لامريكا خيار في البقاء.. ستواجه شعبا استعاد ارادته، وعرف مكانه بين الامم، ولا يرضى الا بتعامل الانداد، ولكي يتحقق ذلك يجب ان يترك العراقيون وشأنهم، وان لا يتحول بلدهم مسرحا للصراعات الاقليمية والمواجهة بين الولايات المتحدة وجيران العراق، وان لا يجهض الحماس الدولي لاعادة اعمار العراق فتضيع البلايين التي اعتمدت لاعماره لأن الدول العربية عاجزة عجزا تاما عن النهوض بهذه المهمة السياسية الاقتصادية الضخمة. ومطلوب من الاعلام العربي ان يعي هذه الحقيقة وان يساعد على فهمها، حتى لا يدفع شعب العراق مرة أخرى، ثمن المزايدات العابثة التي كثيرا ما ساهمت في تضليل المواطن العربي واضعاف قدرته على الرؤية السليمة للأمور.

* الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.