بعد «هاي» و«سوا».. ماذا نحن فاعلون؟

TT

تبدو الساحة الثقافية والسياسية والعربية وكأنها تحولت إلى ساحة للحرب الأهلية بين مثقفي الوطن الواحد، وكأنما نجح أسامة بن لادن، ومعه الولايات المتحدة الأميركية في شق الساحة الفكرية العربية إلى «فسطاطين» متعاديين متناطحين، والخشية كلها أن يؤدي هذا التناطح والعداء إلى نفي مصلحة الأمة.

لا أميل إلى نظرية المؤامرة في تفسير كل الأمور، ولا أميل أيضاً إلى مواقف التخوين والتشكيك في الولاء، ولكن فيما يبدو فإن هذه هي الحالة السائدة في المعترك الثقافي والسياسي، بعد ما مر بنا من أحداث منذ سقوط البرجين، والحرب الأفغانية، وحرب العراق، والقرار الأميركي بادارة شؤون المنطقة، وهي الأحداث التي كشفت من المستور الكثير، ووضعت أطرافاً وأفكاراً كثيرة على المحك.

في ظل هذه الأجواء، يدور الآن جدل بين أطراف مختلفة حول حدود القرار الأميركي بإدارة شؤون المنطقة في شقه الاعلامي، وذلك من خلال اذاعات ومحطات تلفزيون ومطبوعات مكشوفة وغير مكشوفة، يتم من خلالها الترويج للفكر الجديد، وهي المشروعات التي شهدت، حتى الآن، محطة اذاعة «سوا» ومجلة «هاي» الموجهة للشباب، وكلاهما باللغة العربية، وتلا ذلك اتهامات لمشروعات اعلامية جديدة بأنها تلك «غير المكشوفة» من الادارة الأميركية الجديدة لشؤون العقل العربي. وقد استحضر الاستاذ فهمي هويدي في مقال له التجربة الأميركية في حربها الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة فيما أطلق عليه «الاتحاد الدولي للحرية الثقافية». وقد يكون من المناسب استحضار تفاصيل تلك التجربة قبل طرح السؤال: هل ما يحدث الآن هو شكل من أشكال اعادة التاريخ لنفسه مرة أخرى؟

عندما بدأت الحرب الباردة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أطلقت الولايات المتحدة مشروع مارشال الذي قامت فلسفته على تقديم مساعدات اقتصادية للدول الأوروبية لئلا تسقط في يد الأحزاب الشيوعية، ثم أعلن الرئيس الأميركي ترومان عام 1949، برنامج النقطة الرابعة القائم على كسب الشعوب بالاصلاح الاقتصادي، وتقوية الأمم المعادية للشيوعية ودعمها اقتصادياً.

وتولت المخابرات المركزية الأميركية (CIA) تكوين واجهة ثقافية تحارب الشيوعية بالوسائل الثقافية، واستخدمت في ذلك المنشقين على الشيوعية، وكان الهدف الترويج للثقافة والذوق الأميركي في الفن والطعام والملابس والغناء. وأنشئت عام 1950 منظمة «كونغرس الحرية الثقافية» التي تحولت عام 1967 إلى «الاتحاد الدولي للحرية الثقافية»، وكان لها فروع في 35 دولة وأصدرت أكثر من 20 مجلة.

هذه باختصار حكاية «الاتحاد» والآن السؤال: هل نحن نعيش أجواء مشابهة؟ هل نحن عرضة لتكرار تجربة دور مثل هذا الاتحاد؟ الأمر الذي أراه أن هناك دوراً وحضوراً أميركياً متعاظماً وآخذاً في التزايد في الحضور في حياتنا، ليس فقط الثقافية، ولكن في كل تفاصيل حياتنا. هذا أمر نرفضه، ولكننا لا نملك أن نوقفه أو نحد من أثره وكل من يصطف في «فسطاط» أمام الآخر. وفي هذا الاطار لا بد من البحث عن صيغة حوار مختلفة بديلاً عن الاتهامات بالطالبانيه ـ نسبة إلى طالبان ـ أو الأميركانية.

المخاوف التي تنتابنا من المحاولات الأميركية لفرض رؤاها من خلال «وسطاء ممولين» هي مخاوف مشروعة، والرد عليها باتهام من تنتابه المخاوف بأنه عدو لليبرالية هو اتهام «كيدي» ، ولكن طرح السؤال حول مدى احتياج أميركا إلى «وكلاء» يقومون عنها بدور ما ـ وهي التي أصبحت «جارا» في ـ المنطقة ـ هو تساؤل منطقي، خاصة بعد سيطرة الاحساس الأميركي بأنهم لم يعودوا في حاجة إلى أحد بعد دخولهم العراق، وثبت أنهم لم يعودوا في حاجة الى من يحارب عنهم حروبهم بالوكالة. إن طرح مثل هذا الرأي هو أيضاً منطقي، ويحمل من عناصر الحقيقة والاقناع الكثير. ولكن يطرح تساؤل في المقابل ـ هو أيضاً تساؤل مشروع ـ أن ما ينطبق على التدخل العسكري والتغيير بالقوة لا يمكن تطبيقه على التدخل الثقافي والفكري.

أظن أن التساؤلات والمخاوف هي مسألة مشروعة تماماً، والحوار حولها وحول حدود الرغبة الأميركية في التدخل هو مسألة ملحة، وفض الاشتباك بين «الفسطاطين» مسألة مهمة للبدء في حوار وطني، والبحث عن مخرج وطني للخروج من المأزق الذي تعيشه الأمة.

من حق الأميركيين تماماً أن يديروا معاركهم من وجهة نظرهم، ولا يلومهم عاقل إن فكروا ونفذوا أية خطط تتيح لهم تحقيق أهدافهم الوطنية ـ من وجهة نظرهم ـ حتى لو تعارض ذلك مع أهداف ومصالح الآخرين. هؤلاء الآخرون ـ الذين هم نحن ـ علينا أن ندير شؤوننا من منطلق مصالحنا ـ ان عرفناها ـ فإذا كان الأميركيون قد خرجوا علينا بسوا وهاي وغيرها من مشروعات اعلامية، فماذا فعلنا نحن؟