لماذا أصبحنا الشغل الشاغل للعالم؟

TT

في زحمة الاخبار والاحداث لا يخطر على بال المرء ان يطرح هذا السؤال: لماذا تتركز كل الانظار على العالم العربي والاسلامي؟ فمنذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 ـ 1990 اصبحنا في مركز الاحداث الدولية. هذا لا يعني اننا لم نكن نشغل الآخرين سابقا. فقضية فلسطين تعود الى الخمسينات من القرن العشرين، وكثيرا ما تصدرت الحروب العربية ـ الاسرائيلية واجهة الاحداث الدولية.

ولكن منذ ثلاثة عشر عاما وحتى الآن اصبحنا بالفعل المركز الاساسي، لكيلا اقول الوحيد، للاحداث الدولية. وكان ذلك منذ حرب الخليج وتحرير الكويت عام 1991 ـ وحتى (11) سبتمبر 2001، ثم حرب العراق الاخيرة التي لا تزال تتفاعل فصولا امام اعيننا اليوم.

لماذا لا تشغل الصين العالم، وهي اكبر من العرب بكثير، بل وحتى اكبر من العالم الاسلامي ككل؟ لماذا لا تشغل الهند وهي تتجاوز المليار شخص وتعد بمستقبل كبير. لماذا لا يشغل واجهة الاحداث الدولية بلد كالبرازيل، وهو ايضا ضخم بامكانياته ووعوده؟

البعض يقول بأن قضية فلسطين هي السبب، والبعض الآخر يقول البترول والكثيرون يقولون الاثنين معا. وكل هذا وارد وصحيح. ولكن اعتقد انه انضاف اليهما مؤخرا عامل ثالث لا يقل اهمية ان لم يزد هو: مشكلة الاصولية الدينية او الفهم الاصولي للدين. وهذا العامل يتجاوز مشكلة فلسطين والبترول لكي يشمل مليار شخص على الاقل.

كل شيء يحصل كما لو ان مصير العالم متوقف على ما سيحدث في منطقتنا. كل شيء يحصل كما لو انها اصبحت مركز العالم واكثر اهمية من الصين والهند واليابان واميركا اللاتينية!

بعض المفكرين يقولون ما يلي: لا يستطيع العرب ـ المسلمون ان يسلّموا انفسهم للحداثة الغربية كما يفعل العالم الكونفوشيوسي الصيني، او العالم الهندوسي او العالم البوذي، الخ.. فهذه العوالم لا تصطدم بالغرب بنفس الحدة التي نصطدم نحن بها معه. بل ان الصينيين والهنود يأخذون الآن بمناهج الحضارة الاوروبية الاميركية لكي يستدركوا تأخرهم في كافة المجالات. وقد سبقهم الى ذلك اليابانيون.

ويبدو انه لا يوجد في تراثهم اي شيء يمنع ذلك. فهم لا يشعرون بأن دخول فكر الحداثة الى بلادهم يشكل «غزوا ثقافيا» او اغتصابا فكريا كما نشعر نحن. انهم يأخذون من الحداثة كل ما يحتاجونه دون اي رادع او وازع ودون اي حرج. المهم ان يتطوروا وينهضوا ويخرجوا شعوبهم من الفقر والجهل والوسخ والمرض.

فلماذا نشعر نحن بأن دخول فكر الحداثة الى بلادنا يشكل تحديا لشخصيتنا التاريخية واصالتنا؟ لماذا نرى فيه وبالا علينا؟ وما هو هذا الشيء الذي سنخسره اذا ما اصبحنا حديثيين، علميين، بل وحتى علمانيين بالمعنى الايجابي والصحيح لكلمة علمانية؟ نقصد الفهم الصحيح والحر للدين، وليس هدم الدين او نفيه كما يفهم الجهلة كلمة علمانية.

في الواقع اننا نعتقد بأننا نمتلك الحقيقة المطلقة من دون خلق الله اجمعين! ولهذا السبب فإننا لا نزال نستعصي على الحداثة حتى الآن، ولهذا السبب فإن التراث الوحيد في العالم الذي لا يزال يقاومها ويقف في وجهها بكل عنف وجبروت هو تراثنا نحن، ولا احد سوانا.

نحن سجناء ماضينا التليد لسبب بسيط: هو انه لم يتح لنا حتى الآن ان نخوض معركة الصراحة معه على المكشوف. وما دمنا لم نخض هذه المعركة الداخلية ولم ننجح فيها حتى الآن فإنه سيظل عالة علينا ولن نستطيع ان نقبل بفكر الحداثة الكونية وقيمها. والآن اصبح العالم كله معنيا بمعركتنا التراثية هذه، وبخاصة بعد ان وصلت «شظاياها» الى مركز التجارة العالمي فدمرته!

لا احد يعرف، لا احد يقدّر مدى هول هذه المعركة التي تدور رحاها في منطقتنا منذ عدة عقود والتي يتوقف عليها، او على نتيجتها، مصير العالم. لذلك اقول بأنه حتى لو حلت مشكلة فلسطين، وحتى لو انتهت مشكلة البترول او نفد كليا فإن مشكلتنا مع الازمنة الحديثة سوف تظل موجودة لأنها اوسع من ذلك واعمق بكثير. ولكن لا ريب في ان ايجاد حل للمأساة الفلسطينية او تأسيس دولة فلسطين سوف يساعد كثيرا على حل مشكلتنا مع الحداثة الاوروبية ـ الاميركية. ولا ريب في ان عدم حلها سوف يعقد الامور كثيرا ويطيل من عمر الاصولية المتطرفة. هذا شيء اصبح واضحا لكل المفكرين من عرب واجانب. بل ان مشكلة العراق ذاتها لن تحل بشكل ناجع ان لم تحل مشكلة فلسطين. وبالتالي فالمعركة الجارية حاليا هي معركة كسر عظم بين طرفين متشددين اعماهما الحقد والتصعيد، طرف صقور واشنطن وتل ابيب من جهة، وطرف الصداميين والبن لادنيين من جهة اخرى.

وما بينهما يوجد كل الاوروبيين وكل العرب والمسلمين المعتدلين، بل وحتى كل الاسرائيليين المستنيرين الذين يفكرون الى ابعد من انوفهم ويعرفون ان شارون واليمين المتطرف ليس هو الحل. وبالتالي فلماذا لا يتحرك كل هؤلاء ويوقفون المجزرة الجارية حاليا؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه «اندريه فونتين» رئيس تحرير جريدة «اللوموند» سابقا في مقالة نشرها بالأمس، وهو يدعو الاتحاد الاوروبي بدوله الخمس والعشرين الى تبني «وثيقة جنيف» التي بلورها ياسر عبد ربه مع يوسي بيلين مؤخرا، وينصح الغرب بعدم اضاعة هذه الفرصة او تفويتها.

فهل ستنجح جنيف حيث فشلت اوسلو؟ على اية حال فإن هذه الوثيقة تشكل بارقة الأمل الوحيدة في هذا الجو المظلم والكابوسي الذي نعيشه حاليا. ولكن هناك علائم اخرى جديدة اخذت ترتسم على الافق. فعبد العزيز الرنتيسي يتحدث لأول مرة عن ضرورة توفير المدنيين في كلتا الجبهتين الاسرائيلية والفلسطينية. وهذا حدث بحد ذاته وتطور مهم ينبغي ان نحييّه. وكل ما نأمله هو ان ينتصر صوت العقل في كلتا الجهتين وليس فقط في جهة واحدة.

من البشائر الجديدة ايضا حديث فلاسفة الغرب عن ضرورة التفريق بين التيار المتطرف، والتيار الوسطي او العقلاني المستنير في الاسلام. فبعد اليوم لم يعودوا يرموننا جميعا في سلة واحدة. وآخر تصريحات برنار هنري ليفي في جريدة «الفيغارو» الفرنسية تمشي في هذا الاتجاه.

ويمكن القول بأن طارق رمضان يجسد هذا التيار الوسطي على الساحة الاوروبية بكل ألمعية وذكاء. وبالتالي فبعد ان تنتهي معركة فلسطين، او بالاحرى المعركة على فلسطين، سوف تبتدئ معركة اخرى لا تقل هولا وضراوة: انها المعركة الداخلية من اجل الحرية وتبني المنهج العلمي وتوفير الحد الادنى من الكرامة الانسانية لشعوبنا العربية والاسلامية. باختصار فبعد الجهاد الاصغر سوف يبتدئ الجهاد الاكبر: اي الجهاد ضد الذات وضد انحرافاتها ونواقصها المتراكمة منذ بداية عصر الانحطاط: اي منذ موت الفلسفة في ارض الاسلام قبل ثمانمائة سنة!

هذه هي المعركة التي ستبتدئ بعد قيام دولة فلسطين ونهاية هذا الصراع المرير الذي طحن عدة اجيال متتالية في أتونه. ولذلك فإني اقول شكرا لياسر عبد ربه وقدورة فارس ونبيل قسيس ومروان برغوثي الذي من سجنه او زنزانته يصنع التاريخ! واقول شكرا ايضا للتيار العقلاني والانساني في اسرائيل، هذا التيار الذي لا اقبل ابدا بالخلط بينه وبين تيار شارون واليمين المتطرف بحجة انهم جميعا صهاينة او يهود! هذا خطأ تاريخي لا ينبغي ان يرتكبه الساسة العرب وبالاخص المثقفين العرب.

فهل سيبتدئ تاريخ جديد في المنطقة؟ هل ستنجح جنيف، مدينة جان جاك روسو وبحيرة «ليمان» حيث فشلت اوسلو الباردة الى درجة الصقيع؟ هذا ما نأمله ونرجوه. نقول ذلك ونحن نضع ايدينا على قلوبنا من كثرة ما خابت آمالنا في السابق ببارقات الامل وتحولت الى سراب، اصبحنا لا نجرؤ حتى على الأمل، مجرد الأمل.. ولكن لا يحق للغرب الاوروبي ـ الاميركي ان يتخلى عن شعوب المنطقة بعد الآن. فهو سبب المشكلة اصلا وقد اصبحت شظاياها تصل اليه. وينبغي ان يعلم بأن الاصولية لن تنحسر موجتها عن العالم العربي والاسلامي الا اذا وضع حدا لهذا الصراع الجهنمي الذي أكل الاخضر واليابس وقضى على الزرع والضرع. بعدئذ يحق للغرب ان يطالب العرب بحل مشكلتهم مع الحداثة والقبول بالقيم الاساسية للحضارة التي ولدتها: اي قيم التسامح الديني، والحوار الديمقراطي، والنزعة الانسانية، ودولة الحق والقانون.