الوقت مناسب لتخليص اليهود من إسرائيليتهم الراهنة

TT

انتهيت من قراءة نص اعددته، وملخص فصل من روايتي السيرية «طعم الفراق»، بانجليزية فلسطينية النكهة. لملمت بعض ترحيب من في القاعة، ونهضت حاملا ما تبقى منه الى مقعد قريب. تقدمت مني سيدة تحجبت ملامحها بخجل عادي: متأسفة، وصلت متأخرة. لامتني مريم (احدى منظمات الامسية، يهودية يسارية متزوجة من يهودي عراقي). قالت ان كلاما مثيرا فاتني. هل تسمح لي بالاطلاع على ما قرأت؟ قدمت لها الاوراق. اخذتها وادارت مع نفسها امسية مصغرة على مقعد قريب. عادت، بعدها، تطلب الاحتفاظ بالاوراق. قالت انها ستطلع اصدقاء كثيرين عليها.

كنت آخر المتحدثين في امسية جمعتني والشاعر كمال قدورة الذي قرأ بعض قصائده القديمة والاسرائيلي أساف غفرون وقرا مقاطع من رواية تقلبت وقائعها في شوارع نيويورك، عن مصاعب في حياة عاملة يهودية مهاجرة.

كنت قلَّبتُ ملفات ذاكرتي، امام جمهور قدَّمت غالبيته يهوديتها في الاسماء وعبارات التحية التي تبودلت في الدقائق الاولى، عدا ثلاث: سورية تعمل مع اللاجئين. وعراقية كردية، اعلنت عن دهشتها لموقف غالبية المثقفين العرب المؤيدة لصدام حسين المخلوع. قالت انهم يصرون على تعريب الكرد ليتجنبوا الاعتراف بعراق لمواطنيه! ودكتورة هندية مسلمة، ترأس جمعية تعمل من اجل التفاهم بين الاديان.

الداعي للأمسية كان رابطة «حبر منفي» البريطانية، وهي مجموعة صغيرة تعمل على تبادل الخبرات والتجارب الحياتية والثقافية بين الكتاب من اثنيات مختلفة.

وجدت نفسي وسط حصار يهودي. لم أفكر في التراجع. بل قررت «(عدم) مقاطعة هؤلاء بسبب ديانتهم، او حتى لكون بعضهم اسرائيليا»، على ما كتب ادوارد سعيد، ذات مرة، مذكرا بـ«ان الانتصارات الكثيرة للعدالة، تحققت بفضل التعاون السياسي بين اناس يحملون افكارا متماثلة على جانبي جبهة (الصراع) المتشابكة لدرجة كبيرة». الآن أُضيف: حسنا فعل مهندسو «وثيقة جنيف»، من الفلسطينيين والاسرائيليين الشجعان. ذلك ان التلاقي عند خطوط أساسية لمساومة تاريخية، هو عمل كبير. خطوة اولى لدحر افكار من النمط الذي يردده مفكرون عجزة، يكررون بغباء استراتيجي، ان كل حراك داخل المجتمع الاسرائيلي، هو تعبير عن خلافات وصراعات داخل بيت مجاور لا شأن لنا بها. فيما الحكمة السياسية تقتضي تذكير شارون وبقية مجرمي الحكومة الاسرائيلية واحزاب اليمين، أن «معركة تصفية المكاسب السلمية للجانبين، لا يجب أن تتواصل من دون تصادم مع قطاع من المجتمع الاسرائيلي». قطاع يتوسع ويتعزز نفوذه بحوارات السلام، في مواجهة نزعة النقاء القومي الكاذب، التي ترسل الموت في الاتجاهين.

حدثت نفسي: ان جمهور الامسية جاء للاستماع الى قصة فلسطينية. الى حكاية ممتدة في تفاصيل نكبة ثلاثة أجيال، توزعها الرحيل والسجون واللجوء والموت في المنافي القريبة والبعيدة. نكبة أفرزها تأسيس دولة اسرائيل وتبعاته. وقرأت:

«ان الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، سوف يتواصل، ويأخذ أشكالا مختلفة. ولن يتوقف قبل ان يتداول الاسرائيليون، بشجاعة، اعترافا حقيقيا بمسؤوليتهم الاخلاقية والتاريخية عن معاناة الفلسطينيين منذ العام 1948. الألمان فعلوا ذلك، وتحملوا المسؤولية التاريخية عما جرى لليهود على ايدي النازية. دفعوا تعويضات. أقاموا لضحايا المحرقة نصبا تذكارية». وتصالحوا مع التاريخ.

علقت: حقا، لقد ُحرقنا يوم ُحرق اليهود. فالدولة التي صارت ملاذا للناجين وغير الناجين من يهود العالم، أنتجت، في الوقت نفسه، محارق لنا في بلادنا.

احتجت مريم (احدى منظمات الامسية، وهي يهودية يسارية متزوجة من يهودي عراقي): «لا شيء يقارن بالهولوكوست». قلت: حسناً. قبل ايام شاهدت الفيلم الذي عرضته الـ بي.بي.سي، في حلقتين طويلتين، والمستند الى مذكرات آن فرانك. تذكري يا مريم، أن في كل بيت فلسطيني استولى عليه الاسرائيليون، ولم يخجلوا من دمنا على عتباته، (آن فرانك) فلسطينية. حكاية عن مذابح أخرى أبطالها هم الناجون من المحرقة وأبناؤهم وأحفادهم، الذين يشعلون المحارق اليومية في حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. والفرق بين الافران النازية ومجازر اسرائيل، منذ حرب 1948، حتى حروب شارون، هو في شكل الموت، وأرقام الضحايا، لا في حقيقته.

داني (يهودي يساري) يكره شارون. يدعو للسلام ولضرورة التعايش. غير أنه، مثل الغالبية، مقتنع بأن ما قدمه باراك في كامب ديفيد كان سخيّا. حين ضيقت الخناق عليه، انفعل. صرخت داليا في وجهه: اسكت يا داني. ما سمعته وقائع تاريخية لا دعاية اعلامية. اسكت. هدأ. تابعتُ أنا: السلام لا يتحقق بمضغ عروض باراك، ولا بإضاعة الجهد في تكذيبها. بل بقدرتنا على توليد استعداد متبادل، لاقتسام الماء، والهواء، والعواصف، والارض، والبرد، والسماء، والدموع، والفرح، وشبكات المجاري، وأمواج البحر، واوساخ الطرق، والزهور، ولسعات العقارب، وانبلاج الفجر...و...يااااااااه...كم هو حلم بعيييييييييد...كم يبدو حلما بالفعل.

كانت تلك تجربة تجاوزت التنظير وبعثرة الكلام السياسي والآيديولوجي، الى تلاق حول رفض الاحتلال، والبحث عن اقصر الطرق الى التعايش.

حسن، ألم يجر ذلك الحوار داخل قاعة جميلة، بعد ظهيرة يوم لندني فضي، يرسل نسيما حريريا منعشا يداعب أطراف الكلام؟ وهناك.. في فلسطين واسرائيل، يتقاصفون بالجثث، حيث الموت يمحو النظريات ولا يحتمل ترف الحوار؟. نعم. ولكن، لو كانت هناك قيادتان حكيمتان حقا، لعرفتا كيف توظفان الغضب المتراكم فوق الكراهية، الى استراتيجية سلمية، ولما نمت قوى مغامرة عصرت اليأس وجعلته قوة هائلة لموت خارج مسرح السياسة ومنطقها. فالسلام لا تصنعه «الميركافا» و«الأباتشي»، ولا شد الاحزمة الناسفة. والفلسطينيون ابتلوا بقضية شديدة التعقيد. واسرائيل ليست استعمارا تقليديا يأخذ عصاه ويرحل. انها مجتمع تعسكر وحل مكان المجتمع الأصلي.اعادة عجلة التاريخ الى وراء غير ممكنة، لكن يمكن تصويب التاريخ وتعديل مساره. انها عملية شاقة تنتظر العقلاء من الطرفين. أولا، لتحرير الاسرائيليين من اسرائيليتهم العدوانية الشرسة، التي تتغذى من تعزيز استيطان المخاوف الأمنية، وتستثمر كل عمل عنفي في استنساخ صورة الضحية. وثانيا، لتحرير الفلسطينيين وبقية العرب، من وهم الحل العسكري للصراع، وقد فشل على امتداد خمسين عاما عربيا، وانتفاضتين فلسطينيتين، قصف العنف والسلام الناقص عمر الاولى. وأخذ الانتحار، الذي اصبح شكل الكفاح الوحيد الذي تمارسه قوى فلسطينية، الانتفاضة الثانية الى جهنم معاصرة. فهو «نهاية صاحبه لا نهاية الصراع»، كما كتب عباس بيضون عن حق.

ليسأل الفلسطينيون انفسهم: اين هي القوة الاخلاقية الهائلة التي رفعتهم الى مصاف الانبياء خلال الانتفاضة الاولى، قبل ان يفقدهم العنف مشهد محمد الدرة يتمزق إعلاميا بين «تقاطع النيران» في الانتفاضة الثانية، ولا يقوون على اكتساب الحقيقة، رغم وضوح المشهد. قبل ان يدفنوا جثة الصغيرة، ايمان حجو، من دون مشاركة اطفال العالم في جنازتها. لماذا خلعت لجان حقوق الانسان وظيفتها امام حقوقهم؟ لماذا أغمض العالم عينيه عن أبشع المجازر، وكف عن تلمس سخونة دمهم؟ لماذا يتجاهل «الخُضر»، انصار البيئة في العالم، مجازر الزيتون تهرسه الدبابات، فيخرج عصيره زيتا يشبه دم الفلسطينيين، لا بل هو دمهم؟. ومن يتحمل مسؤولية خيباتنا التاريخية، من محيط تبجحنا الى خليج انغلاقنا إذن؟ اسرائيل «المشورنة» تحتمل العنف يحفظ لها ثوب الضحية. لا تقوى على السلام فتخرج لمحاربته بوحشية خشية أن يغير طابعها، ويحررها من غيتو مخاوفها. أما فلسطين الباحثة عن فلسطينها، فلن ترتاح في دولتها قبل تحرير يهود اسرائيل من اسرائيليتهم الراهنة. إن عملا كبيرا، شاقا وخطيرا، ينتظر دعاة السلام في الجانبين.