بعيداً عن التفاصيل

TT

يحقّ لكل عربي اليوم أن يتساءل، ما الذي يجري للعرب في بلدان مختلفة وإلى أين تسير الأمور؟ ويحقّ لهؤلاء الذين يضحّون بالدفء والثمر والشجر، كي لا يُقال ان هذه الأمة لم تقاوم، أن يسألوا هل نحن وحيدون؟ ويحقّ للناشئين اليافعين الناطقين بالضاد أن يقلقوا على مصيرهم ومستقبلهم. ويحقّ لنا جميعاً أن نغضب من البعض الذي أخذ يتنامى ويتزايد من «أصول عربية»، أو «يتحدثون العربية» ويعملون لخدمة توجهات تناقض في النتيجة مصلحة الأمة ومستقبلها. وغاية ما يفعله الجميع في وسط هذه الظلمة التي تزداد حلكة، هو أن يعيدوا على مسامعهم ما أدلى به مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق، أمام القمة الإسلامية، أو ما تجرأت على إقراره ونشره دائرة استفتاء للرأي الأوروبي، والتي أظهرت أن الأوروبيين يعتبرون إسرائيل الرقم الأول في تهديد السلم الدولي. كما تنشر صحف عربية وأجنبية عن أصحاب مواقف في أنحاء شتى في العالم اتخذوا مواقف نبيلة احتراماً لعذابات الشعب الفلسطيني، ومنها أستاذ في جامعة اوكسفورد رفض قبول طالب إسرائيلي خدم في الجيش الإسرائيلي، لأنه تألم لما يتعرض له الشعب الفلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي، وطبعاً اضطر أن يقدم استقالته من الجامعة. وفي سابقة خطيرة في ألمانيا، وبعد جدال طويل استمرّ عدة أسابيع، قرر الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض، طرد النائب مارتن هوهمان بسبب تصريحاته «المعادية للسامية»، حيث قارن اليهود بالنازيين في خطاب ألقاه في يوم الاتحاد في الثالث من اكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وتخطط أنجيلا ميركيل، رئيسة الحزب، لطرد هوهمان، ليس فقط من الكتلة البرلمانية وإنما من الحزب أيضاً، بحيث لا يسمح له أن يكون عضواً في الحزب بعد الآن. أما النائب هيزي نيتشه والذي أدلى بتصريحات معادية للمسلمين والأتراك، فلم يحرّك أحد شيئاً ضده، وأقصى ما انتقد به كلامه أنه غير مقبول، بينما يستمر في الحزب ليخطط لسياسات معادية للعرب وللمسلمين. وفي الوقت الذي وصف فيه كلّ العالم خطاب الرئيس بوش بأنه مهين للعرب والمسلمين، وأنه موجه للاستهلاك الداخلي، قرّر بعض العرب أن يأخذوا كلمة «ديمقراطية» على محمل الجد، وأن يصفوا الخطاب بما لم يقصد منه كاتبه أصلاً، لأن هدف الخطاب هو وضع الصراع العربي ـ الإسرائيلي خارج برنامج عمل الولايات المتحدة، والانتقال إلى الانقضاض على الوضع العربي بحجج وذرائع مختلفة، وبهدف واحد لا ثانيِ له، وهو تقويض الهوية العربية وإحلال الهوية الصهيونية مكانها، الأمر الذي دفع كتّاباً كثرا في الغرب إلى الدعوة إلى التوقف عن إذلال العرب والمسلمين كما شجّع الأوروبيين على اتخاذ خطوات مثل العمل على مقاطعة السفير الإسرائيلي احتجاجاً لرفض إسرائيل لقاء موفدهم في الشرق الأوسط.

الأمثلة عن تنامي النقمة في العالم ضد الجرائم الإسرائيلية التي تُرتكب يومياً بحق الشعب الفلسطيني أكثر من أن تحصى، وقد بدأت بعض الأصوات الحرة تقارن بين الاحتلال الأمريكي للعراق والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وحق العرب في المقاومة الذي يجب أن يكون واحداً في كلتا الحالتين، خاصة أن الولايات المتحدة ليست مسؤولة في العراق فقط وإنما هي مسؤولة عن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال دعمها اللامحدود لكل حكومة إسرائيلية بغض النظر عن هذه الحكومة. لماذا لا يحاول العرب إذاً اليوم، وفي هذه اللحظة التاريخية المناسبة أن ينفضوا عن أنفسهم تهمة الإرهاب في فلسطين وأن يعلنوا على الملأ حقهم في المقاومة حتى زوال الاحتلال، وأن يتوقفوا عن المراوحة في دائرة الفكر والمصطلح التي خطّها من يستهدف وجودهم وبقاءهم. إذا اقتصرت ردود الفعل العربية على ذكر المواقف الرسمية وغير الرسمية، التي تتحدى الممارسات الإسرائيلية في أوروبا أو في آسيا، وأصبح من الضرورة بمكان أن يخرج العرب جميعاً من دائرة اليوميات والجزئيات، والتي تركّز على «حضّ إسرائيل كي تخفف من معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة»، أو «حثّ الولايات المتحدة على العودة كي تكون وسيطاً نزيهاً في الصراع»، أو «دعوة الفصائل الفلسطينية كي تقف صفّاً واحداً خلف هذا أو ذاك». إن كلّ هذه المواقف والتصريحات تُري غياب استراتيجية عربية تقرأ الأحداث والخطوات قراءة دقيقة، وتضع الأجوبة والبدائل التي تحافظ على هوية الأمة وبقائها. إن نتيجة استفتاء الرأي العام الأوربي تدق ناقوس الخطر للعرب أولاً، حيث أن إسرائيل باتت تهدد الأمن العربي والمستقبل العربي، بعد أن أصبح التمييز صعباً بين دورها ودور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

والجواب على هذا الوضع الخطير أو مواجهته لا يمكن أن يتمّ من خلال إعطاء مساحة كبيرة على الفضائيات العربية للمحاورين الأمريكيين والإسرائيليين كي يُقنعوا الغرب بأن العرب ديمقراطيون وحضاريون ومنصفون، كما لا تتمّ من خلال دعوة البعض للولايات المتحدة أن تتدخل في الشرق الأوسط، كما لا تتمّ من خلال الاعتماد على ضمائر شخصيات نزيهة ترفض الظلم والعدوان وتعبّر عن رفضها، هذا حتى وإن دفعت ثمناً شخصياً باهظاً، بل إن مواجهة هذا الوضع الخطير تتطلب أول ما تتطلب من العرب أنفسهم، الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، وإدراك حجم الخطر المحدق بهم، والذي يتمثل في انهيار ثقة البعض بحاضرهم ومستقبلهم والانضواء تحت لواء التغريب للمنطقة، وشعور البعض الآخر باليأس والإحباط وعدم التقاط خيار المقاومة سواء بالكلمة أو الفكر أو الفعل.

إذا لم يبدأ العرب بالتفكير لأنفسهم والتخطيط لمستقبلهم، سوف يجدون دائماً من يفكر عنهم ويخطط لمستقبلهم بالشكل الذي يريده ويرتئيه، وإذا لم يثيروا ضجّة وصخباً لقتل أطفالهم واقتلاع أشجار الزيتون وهدم منازلهم سوف ينتقل هذا الاعتداء بالعدوى من أرض عربية إلى أخرى إلى أن تتمّ إزاحتهم فعلاً خارج حركة التاريخ وتصبح أقصى درجات الإحسان عليهم هي أن يأكلوا ويشربوا، وأن تتصدق عليهم هيئات دولية أو محلية بذلك.

مع كلّ غياب شمس ينخفض سقف المسموح للعربي التحدث به أو اتخاذ فعل بشأنه، ويرتفع سقف المتاح لأعدائهم بالانقضاض على أرضهم ومقدساتهم وحقوقهم.

وكلما تنازلوا عن حق اعتبرت النقطة التي توصلوا إليها نقطة البداية مع الطلب إليهم بتنازلات أكبر. وأحد الأسباب الأساسية لهذا الوضع المرعب هو غياب الشعور الجماعي بالقضية، والتركيز على التصوّر الفردي والثروات الخاصة والخلاص القطري الذي برهن عبر التاريخ أنه ليس بخلاص، إذ ما لم تكن الأوطان عزيزة لا توجد عزّة لأحد. وأحد الأسباب الأخرى هو عدم انتقال القلق الفردي الذي يعيشه البعض في هذه الأمة إلى وعي مشترك يحلّل المرحلة، ويضع أسباب الهوان، ويستشرف آفاق المستقبل، ويضع الاستراتيجيات الواضحة كي يتمّ تثبيت الحقوق العربية في الأذهان والأوطان، وكي نحمي بلادنا من التفكك والانهيار. ولا حرج أن نعلن للعالم أن سياسات إسرائيل الإجرامية تهدّد الأمن العربي والوجود العربي بينما تستمر في الادعاء أن أمنها ووجودها مهددان وبمثل هذه الخطوة فقط يمكن أن نوقف التردّي في صفوف من يستخدمون العربية لخدمة أعداء الأمة العربية، لأنهم راهنوا على مستقبل آخر ومنظور آخر للأمـور.

على العرب أن ينفضوا غبار الكسل الفكري وأن يواجهوا مشروعاً يستهدف إلغاءهم من مسيرة التاريخ.

* كاتبة سورية